غدا سيكون يوما حافلا ........ أول يوم لها في الجامعة، زهور، فتاة ريفية ترعرعت في بيت محافظ، كان والدها فلاحا من الطراز القديم، اكتسب طيبته المفرطة من دفئ الأرض و عطائها، اكتسب حنانه الرجولي من انسياب ماء المطر على أخاديد الأرض الجرداء ليرويها، واكتسب صلابة روحه من قسوة أقراص المحراث التي تجرح الأرض دون شفقة أو رحمة .... فقط لتعيد لها الحياة.
أما الأم، فكانت بسيطة بساطة بزوغ الفجر أيام الصيف، دافئة كدفء حليب البقر الذي تعودت على حلبه كل بكرة، لا يزال حياءها الطفولي سجينا في نظرتها التي انطفأ بريقها من سهر الليالي على أطفالها الست، و على زوجها، زوجها الذي لا تعرف لون عينيه كيف هو، طيلة تلك الأعوام لم تنظر في عينيه نظرة مباشرة و هي التي أنجيت منه أربعة أولاد و بنتان، زهور كانت آخر العنقود.
إنها سابقة في عائلة زهور البدوية، سابقة أن ترتاد فتاة من هذه العائلة الجامعة، ليس هذا فقط ... على زهور السفر إلى خارج المدينة عدة أميال و عليها أن تقيم في الحرم الجامعي.
لم تكن هذه من مخططات زهور في البداية، فهي لم تتوقع أبدا أن تكون لها رحلة أخرى خارج أسوار البلدة أو حتى خارج أسوار الثانوية، كانت تظن أنها ستقتفي أثار شقيقتها الكبرى نحو بيت زوجها الذي اختطفها من مقاعد الدراسة باكرا، و لكن بسبب المجموع العالي الذي تحصلت عليه في شهادة التعليم الثانوي، و الذي جعلها تتصدر قائمة المتفوقين لهذه السنة، جعلها تدرك مدى أهميتها في هذه الدنيا، و جعل الأحلام تغزو محيطها الضيق ملوحة لها بورقة صغيرة مغرية.......... الشهادة العليا، و لكنها اكتفت حينها بتهاني العائلة.
والدها كان فخورا بها و خزّ في نفسه أنها ولدت فتاة و للأول مرة في حياته تمنها لو كانت ولدا، لتشق طريقها للأمام، و لكن لا مفر أمام العادات و التقاليد الخانقة، كان ينظر إليها بأسى، ينظر إلى حبيبته المدللة عن دون أبناءه الآخرين، فلطالما استحوذت على حبه بجدارة.
و جاء ذلك اليوم الذي جعل حياة زهور تلتف مائة و ثمانين درجة، طرق خفيف على الباب، فتح والدها و إذا به يتفاجأ بمجموعة من الرجال أمام بيته، نظر إليهم متفحصا و عرفهم على الفور، إنه مدير الثانوية و معه مجموعة من أساتذة زهور، جاؤوا يترجونه ليسمح لها بإتمام دراستها، ستكون خسارة كبيرة للمجتمع أن تتوقف مسيرة زهور عند هذا الحد، و حاول الأب بدوره تبرير موقفه من عدم السماح لها بارتياد الجامعة .... التقاليد .... العائلة .......، و لكن في قرارة نفسه كان يتمنى أن يضرب بكل هذا عرض الحائط، فهو يثق بابنته أكثر من ثقته بنفسه، قام بتربيتها على أصول الدين و الخلق الحسن رغم أنه فلاح أمي، ثم طلب مهلة للتفكير، بعد أن أكد له المدير أن زهور تستطيع أن ترتاد أي جامعة تريد، بسبب مجموعها العالي.
مر أسبوعان و هو يفكر و يفكر، و كلما وقع نظره على زهور، يراها بحلة بيضاء جميلة كالتي يرتديها الأطباء، فتبدو مناسبة عليها فيبتسم معها، فترد له الإبتسامة بحنان فهي تحس بصراعه الداخلي مع نفسه و مع العائلة، إلى أن فاجأها يوما بسؤال : زهور ... كم سيتطلب منك من وقت لتصبحي طبيبة.
فردت زهور و هي متفاجأة : خمس سنوات يا أبي
- هل أستطيع الإعتماد عليك يا ابنتي ؟
- تعتمد علي في ماذا يا أبي ؟
- أن تعودي إلى بعد خمس سنوات و أنت طبيبة
كاد قلبها يهرب من صدرها، فقفزت : بكل تأكيد يا أبي، فقط أدع لي الله أن يوفقني
فرد عليها : إن شاء الله
و بعد أسابيع قليــلة تقدمـــت زهـور من جـامـعــة الطــب و أودعـت ملـفـهــا، و هــي تــدعــو الله أن يوفقها في الوفاء بوعدها لوالدها الذي سيضطر أن يحارب من أجلها خمس سنوات متتاليــة أو ربـمـا أكـثـر و أول مـن سـيـحـارب هـو أشـقاءها الأربع.
ودّعت زهور والديها و كل أشقائها، العائلة التي لم تبتعد عنها ليلة واحدة، و قد جاء اليوم لتبتعد عنها ليالي كثيرة، كان قلبها يتقطع من دموع أمها و شقيقتها، و كان والدها واقفا مدعيا الصلابة، و لكن قلبه كان كقطعة قطن تعتصر من ألم فراق ابنته إلى مصير مجهول.
و غادرت زهور البلدة يرافقها والدها إلى محطة القطار، و ما إن صعدت إليه، حتى نداها من خلفها : زهور.
فالتفتت إليه بعيون دامعة : نعم أبي
فرد عليها : لا تنسي وعدك لي يا ابنتي
فهزت رأسها وهي تحبس الدموع في عينيها.
دخلت الجامعة من بابها الواسع الذي وجدته يعادل خمسة أضعاف باب ثانوية بلدتها، اتجهت إلى غرفة الحرم و هي تحمل حقيبة ملابسها و مقتنياتها، و هناك التقت برفيقتي الغرفة،
يا إلهي !!!!!!
هل أخطأت الغرفة ؟ كانتا تبدوان كنجمات السينما العالمية، ملابس فاضحة، مكياج الصارخ، مع تسريحة جريئة، وقفت تنظر إليهما كالبلهاء، حتى فاجأتها إحداهما :
مرحبا بك ... أكيد أنت الرفيقة الثالثة ؟
فردت زهور : نعم ... مرحبا أنا زهور.
فتفحصتها الفتاة بنظرة جريئة أدركت من خلالها أنها فتاة قروية،
كانت زهور ترتدي حجابها الأسود مع خمار رمـادي يـغـطـي كـتـفيها، و لا تضع شيئا من الزينة، و مع هذا كانت جميلة جدا، كانت تقاطيع وجهها متناسقة بشكل رائع، مع لون بشرتها المرمري .... جمال عربي أخاد.
دخلت و هي تحس بشعور سيء، أمام نظرات الفتاتين لها، يا إلهي كيف ستستمر مع هاتين المخلوقتين،
كانت الحياة الجامعية مختلفة تماما عن الثانوية، كانت عالما آخر، عالما واسعا، سريعا، متطلبا ... ، و بعد مرور عدة أسابيع بدأت تتعود على الفتاتين، و تبدد خوفها منهما لأنهما كانتا اجتماعيتين، مرحتين، لا سيما نوال ...
نوال كانت فتاة ذكية جدا، تعلم الكثير و لها ثقافة واسعة جدا، طيبة القلب و لكنها كانت فتاة مستهترة نوعا ما، متحررة لا يهمها العالم الخارجي أو المحيط الذي تنتمي إليه، و كانت تهتم بشكلها و منظرها بشكل رهيب، تنظر إلى نفسها في المرآة عشرات المرات قبل أن تغادر الغرفة، تلبس أرقى الماركات و تستعمل أجود أنواع الماكياج، كان حلمها أن تصبح عارضة أزياء، ولكنها لاقت رفضا قاطعا من والدها، الذي أرغمها على ارتياد كلية الطب،
رغم الفارق الكبير بين زهور و نوال في الطباع، إلاّ أنهما أصبحتا صديقتين مقربتين، تخرجان معا، تذاكران معا، و كانت زهور منبهرة جدا بنوال، كانت تجربة جديدة بالنسبة لها، شخصية متحررة، لا يهمها من الناس شيئا، غير مقيدة بالعادات و التقاليد التي بدت في لحظة ما سخيفة بالنسبة لزهور،
نوال وهي تمشي في الجامعة كانت تستقطب نظرات الشبان المعجبة بهذا الغزال المترنح، الكل كان يتمنى منها نظرة و لو عابرة، مما جعل زهور تتمنى أن تصيب نصف حظ نوال في حضورها القوي،
و شيئا فشيء أصبحت نوال تسحب زهور إلى عالمها الملون، أقنعتها أولا بارتداء ألوان زاهية، فزهور كانت ملابسها منحصرة بين ثلاثة ألوان فقط، الأسود، البني و الرمادي، فأقنعها بتغييرها إلى الوردي و الأزرق و الفوشي،
و في تلك الليلة التي كانت فيها نوال تذاكر، كانـت زهــور تـحـمـل مـرآة بيـدها، تدقق بملامحها، و انعكست صورة نوال على المرآة، كانت من غير مساحيق، و هنا دخلت زهور في معركة مقارنة بينها و بين نوال : عيوني أجمل من عيونها، أنفي كذلك و شفتي المكتنزتين، يا إلهي أنا أجمل من نوال، مع أني لا أضع المساحيق مثلها إلاّ أني أجمل منها، لكن كيـف سـيــبـدو شـكــلـي لو وضعت بعضا من تلك الألوان.... أكيد سأسحقها، و هنا تحركت بداخلها غريزة الأنثى الاستحواذية، فطلبت من نوال أن تضع لها بعض المساحيق التي لطالما تحايلت عليها أن تجرب القليل منها، و بالفعل قفزت نوال من مكانها إلى علبة الزينة، فهذا أكثر ما كانت تحــبــه و عمــدت إلــى وجـــه زهـــور و بـــدأت تـضــع القلــيــل مــن هـــذا و الكـثـيــر من ذاك، تـارة بـريـشــة و طورا بأناملها الـدقيـقــة، و هـي في أوج تركيزهــا و كأنهـــا تـرســم لــوحـة مـن الفن التشكيلي، و لما انتهت صاحت : يا إلهي !!!!! تبدين ................
فرفعت زهور المرآة و صُدمت بشكلها الجديد، حتى أنها لم تتعرف على نفسها، كانت تبدو تماما كملكات جمال العالم،
لكل شيء بداية، كما لكل شيء نهاية، و أصبحت زهور لا تستقبل العالم الخارجي من دون تلك الألــوان، كـل شيء تغير فيها، ألوانها، طريقة حديثها، طريقة مشيها، أصبحت نسخة عن نوال، و أصبحت الأعين تلاحقها، نظرات، مغازلات، إبتسامات محلقة في الهواء نحوها، و كانت على حق، فقد سحقت نوال، سحقا ذريعا، و تحولت العيون عن نوال إلى هذه الفتاة القروية الملونة،
و تراجع الخمار قليلا إلى الوراء بأمر منها، ليكشف عن جزء من شعرها الأسود اللامع، فسحبت منه بعض الخصلات الأمامية، لتسدلها على الجهة اليسارية من جبينها الشامخ، كستار مخملي مائل، فاتصل بحــاجــب مــائــل كقــوس عـربي يرمي نبالا قاتلة من عينيها اللوزيتين العسليتين، و انتقل همها من إصرارها على إحتلال المركز الأول في التفوق الفكري و العلمي إلى نظيره في الجمال و الدلال.
ثم ماذا ؟ الحياة قصيرة كالحلم، يجب علينا تدارك لحظاته الجميلة، قبل أن يخوننا الزمن ليقذف بنا إلى خانة النهاية، كم ستعيشين يا زهور؟ يكفي ما مر من حياتك مدفونة في تلك القرية البدائية، مقيدة بالعادات و التقاليد السخيــفــة، آن لــكــي أن تتنفسي كباقي أترابك من البنات، آن لكي أن تحطمي تلك القوقعة الهشة التي بنيت حولك لتحميك، تحميك من ماذا؟ سخافات، ترهات، لا أساس لها من الصحة، ما الفرق بين زهور الأمس و زهور اليوم ؟ لا شيء، فقط بعض الألوان، و لا أظن أنها ستؤثر عليك يا زهور..........
هذا هو الصوت الذي كان يحث زهور على مواصلة أول خطواتها على طريق اللاعودة، الصوت الذي كان يبرر لها نقلتها المفاجئة، الصوت الذي رفع صوته عاليا ليغطي على صوت الضمير...
كل يوم كانت تخرج بحلة أبهى، و بألوان أزهى، استقطبت الطالح قبل الصالح، و المستهتر قبل المحترم، و في ذلك اليوم و هي تسير شامخة الرأس بين أروقة الجامعة، متجاهلة القلوب الولهانة، و العيون السكرانة، إقترب منها شبح مستهتر، جريء النظرات، دنيء الفكر، دنى منها و أسّر في أذنيها بضع كلمات شلت حركتها، و غاب عقلها إلى زمن مضى، و سافر إلى تلك اللحظة، عند الخط الفاصل بين هنا و هناك، ليضعها أمام ذلك الفصل الأخير من مسرحية الحياة الريفية، و بالتحديد على درجات القطار أين كانت تتهيأ لتمثيل الفصل الأول من مسرحية الحياة الجامعية، وقفت عند آخر مشهد درامي : لا تنسي وعدك لي يا ابنتي
الآن فقط، ساحت كل الألوان من أمامها كاشفة عن اللون الوحيد، المعترف عليه في مثل هته المواقف، الأسود القاتم.
استدارت و ركضت هاربة قبل أن يعود عقلها المسافر في رحلته الزمنية، فيُصدم بما آلت إليه حالها، ركضت كطفلة لطخت فستان العيد لتنظفه قبل أن يراه الجميع، ركضت إلى تلك الغرفة المسكونة بشبح الزهور التي قتلتها بجرعة زائدة من الألوان، ركضت كمن يركض هاربا خشية إمساكه متلبسا بجريمة الخيانة العظمى.
وصلت إلى باب الغرفة، مكان الجريمة، فتحته ببطء شديد، مخافة أن توقظ شبح زهور القروية التي قتلها منذ أسابيع، واتجهت صوب غرفة الحمام، نظرت في المرآة إلى وجهها الملطخ بعدة ألوان، لترى صرعا بين فتاتين أيهما ستفوز لتضع ملامحها على هذا الوجه الفارغ، غسلت الدموع معظم الألوان فكشفت عن وجه يحاول جاهدا الظهور من تحت الركام، فتحت الماء، الماء الذي تعود دائما على تنظيف أوساخنا، دون مقابل، و دون كلل أو ملل، فأغرقت تلك الألوان في كفين من ماء فقتلتها، قتلت تلك الألوان السخيفة لتعيد ألوانها الأصلية، و تسابقت نظراتها من جديد إلى المرآة، فتهللت أسارير وجهها مبتسمة : مرحبا بك من جديد يا زهور...
ثم فتحت الدولاب، فوجدت حجابها الأسود و خمارها الرمادي يعتليهما شوق الانتظار، لاحتضان حبيبة غابت عنهما دون سابق إنذار، اختبأت داخلهما، فهما الصور المنيع لها ضد الغزاة المرتزقة،
و خرجت من منصة الإعدام بألــوانهــا الأصلــيــة، الـتـي اكـتـسـبـتها منذ مولدها، و مشت بفخر و ازدهار على طريق اللاعودة، الطريق الذي بدأته من باب بيتها في القرية.
" جربي أحضاني الملتهبة و لن تندمي أبدا " كانت هته الكلمات التي أسرّها ذلك الفتى المستهتر في أذن زهور، الصفعة التي جعلتها تستفيق من أفيون الألوان.
................ إنتهى