هذه القصة مهداة بشكل خاص إلى إبراهيم نصيب
كــان يا مكان في سالف العصر و الأوان، شاب اسمه إبراهيم، على خـلق و ديــن، و كان ميسور الحال، و اتفق على أنه تزوج من فتاة جميلة، حنونة و طيبة، إسمها روضة، مما جعله راض كل الرضا على زيجته هذه رغم صغر سنها الذي لم يتجاوز ستة عشر سنة، في حين كان هو في السنة الثانية بعد العشرين.
و لكن بعد زواجه منها مباشرة، بدأت تجارته تتدهور و تتدهور، حتى فقد كل ما يملك، في حين تهامس الناس فيما بينهم و أجمعوا على أن السبب هو نحس الزوجــة، و وصـــل الخبـــر إلى مسامعها، فاختفت إشراقة وجهها و بريق عينيها، و تغيرت معاملتها لإبراهيم، من معاملة الزوجة الحنون الودود إلى زوجة صعبة المعشر، تفتعل المشاكل، فأصبح العيش معها مستحيلا ولكن إبراهيم أيقن سبب ذلك ببصيرته النقية فالطابع يغلب التطبع، و في ليلة رآها هادئة فخاطبها قائلا : هل أنت نادمة لزواجك مني ؟
- روضة ( و هي تنظر في الأرض) : نعم
- إبراهيم : أجيبيني و أنت تنظرين في عيني
- روضة ( و هي منكسة رأسها ) بصوت مخنوق : و أرجوا منك أن تكرمني بالطلاق
- إبراهيم ( بصوت ثابت ) : ضعي عينيك في عيني و كرري ما قلته، و لك ذلك
و هنا انفجرت روضة بالبكاء كقنبلة موقوتة.
فاحتضنها إبراهيم و هو يمرر يده على رأسها الصغير : أعلم سرك الدفين أيتها الشقية، حقا أنتم النساء ناقصات دين و عقل. ( سكت برهة من الزمن ثم أضاف ) : يا روضة الرزق بيد الرحمان، يرزق من يشاء بغير حساب و يمنع من يشاء و لا يسأل عن الأسباب، إن كنت تظنين أنك السبب في تدهور حالتي المالية فأنت مخطئة، فلتذهب كل ثروتي للجحيم، فأنا لن أحتاج إليها من دون زوجة طيبة المعدن، كريمة الأصل مثلك،
روضة ( و هي تشهق من البكاء ) : و لكني في الآونة الأخيرة كنت قاسية معك.
- مخطئة يا روضة، فالطابع يغلب التطبع، فبالرغم من المشاكل التي كنت تفتعلينها معي، إلا أني كنت ألمس فيها حنانك و عطفك و حبك الجنوني لي، و خوفك علي.
كانت كلماته لها كمخدر قوي، ليستأصل مرضها الخبيث على أنها نحس عليه.
و مرت أسابيع و الحال على حالها، إلى أن قرر إبراهيم السفر خارج أسوار المدينة، عله الله يخبئ له رزقا كريما في مكان ما، فشاطر زوجته بفكرة الرحيل فاحترمت رغبته و دعت الله أن يكرم زوجها الأصيل و أن لا يرده خائب الرجاء.
و سافر إبراهيم مخلفا وراءه قلبه الثمين بين جوارح روضة، و كلما ابتعد عنها، كلما زاد شوقه لها.
و بقي إبراهيم يسير في ملكوت الله أياما و أسابيع و شهورا، يبحث عن رزق كريم يكفيه شر الزمان هو و توأم روحه و كيانه، و في يوم من الأيام و هو يسير وقد تمكن منه الجوع لمح خلية نحل مبنية في أعلى الجبل فتاقت نفسه لبعض العسل فتسلق ذلك الجبل و قبل أن يصل إليها خانته قدمه، و سقط من أعلى الجبل ليستقر عند سفحه و قد ارتطم رأسه بحجر كبير، جعله يفقد الوعي تماما و لكن الأقدار ساقت إليه شيخا كبيرا، اختزل تجارب الحياة في لحيته الرمادية، و تربع الوقار على تجاعيد وجهه الهزيل، و استوطنت الحكمة نظراته الثابتة، تفحص هذا الشيخ نفس و نبض إبراهيم، فتهلل وجهه فرحا حين علم أنه لا يزال على قيد الحياة، فحمله معه على ظهر حماره و توجه به إلى منزله، و اعتنى به عدة ليال، حتى استفاق إبراهيم و إستعاد عافيته شيئا فشيئا، و لكنه فقد شيئا ثمينا يحتاج إليه للعودة إلى حبيبته روضة، ذاكرته، لم يعد يعلم من هو .... ما إسمه .... من أين أتى ....... فقد صار رجلا من غير ماض، احتواه ذلك الشيـــخ الهـــرم الوحيــد بعطفه و كرمه و سهر عليه حتى إستعاد إبراهيم قوته و عافيته، و سرعان ما اكتشف ذلك الشيخ معدنه الأصيل، فعرض عليه عرضا مغريا لم يستطع إبراهيم رفضه : إسمع يا غريب ( أطلق عليه هذا الإسم لأن إبراهيم قد نسي إسمه الحقيقي )، ما رأيك لو تعمل عندي راعيا للأغنام، على أن أهبك كل شهرين خروفا أو نعجة إلى أن تصبح شريكا لي في حلالي بالنصف.
فكر إبراهيم قليلا و هو ينظر إلى قطيع الأغنام أمامه، كان عددها كبيرا جدا، ثم نظر مباشرة إلى تقاطيع وجه الشيخ الطيب التي شجعته على القبول فوافق على الفور، و بقي إبراهيم شهـــورا و شهـــورا يعتني بالشيخ و كذا بحلاله بأمانة و تفان، و الشيخ من جهته يوفي له بوعده، و مرت سنوات و سنوات، إلى أن صار إبراهيم يملك نصف حلال ذلك الشيخ، و في ليلة من ليالي الشتاء الباردة انتبه إبراهيم على صوت حركة غريبة في زريبــة المــاشــية، فلبس ثوب الحذر و خرج على أمشاط أرجله، و إذا به يلمح أشخاصا يتسللون إلى الزريبة فأيقن أنهم لصــــوص، فتصــــدى لهــــــم بكل قوة و بسالة، و لكن مثلما يقول المثل " الجماعة تغلب السبع "، فقد باغته أحد اللصوص بضربة قوية على أم رأسه بهراوة قوية، شجت رأس إبراهيم نصفين، فصرخ صرخة مدوية و وقع مغشيا عليه، و على تلك الصيحة انتبه الشيخ، و بذكاء منه راح يصيح : يا حسين، يا محمد، يا علي، قوموا بسرعة، إننا نتعرض للسرقة، فما كان على اللصوص إلا النفاذ بجلدهم، و اقترب الشيخ من إبراهيم ليجده غارقا في بركة من دماءه، إنحنى عليه و هو يبكي : رب ولد لم ينجبه صلبك ...
بقي إبراهيم فاقدا الوعي أربعة أيام بلياليها، و الشيخ يعتني به تارة و يسجد لله تضرعا أن يشفيه تارة أخرى، و كان إبراهيم بين الموت و الحياة، يستفيق لحظات، و يغيب ساعات،
و بين سكرة و سكرة، كان يلمح وجه امرأة ملائكي، تبتسم له، و هي تمسح على رأسه، فكان يتساءل من هي ؟ و هذا ما جعله يصارع الموت، فقط ليعلم من تلك المرأة الملاك.
و بعد أسبوع فتح إبراهيم عيناه، ليجد الشيخ جالسا إلى جانبه، فسقاه شربة ماء، بعدها فاجأه إبراهيم بسؤال : يا شيخي ... أين هي ؟
فرد عليه الشيخ مبتسما دامع العينين : من هي يا غريب ؟
فرد إبراهيم : روضة ... زوجتي
فرفع الشيخ رأسه للسماء و حمد الله : الحمد لله لقد إستعدت عافيتك و استعدت ذاكرتك
و في هته اللحظة بالذات انتبه إبراهيم لعدد السنين التي مرت عليه هنا .......... عشرون سنة، يا إلهي عشرون سنة و هو بعيد عن روحه و قلبه، بعيد عن روضة،
و بعد ان استعاد إبراهيم قوته و عافيته توجه إلى الشيخ الذي أنقده من الموت مرتين و خاطبه بقلب منكسر : إرخص لي أيها الشيخ الجليل، لقد مر دهر كامل و أنا بعيد عن أهلي و دياري، ما عدت أستطيع البقاء هنا لحظة واحدة، مع أنه يعز علي فراقك، و لولا وجود زوجة تحتاج إلي، لما فكرت في تركك لحظة واحدة.
فرد عليه الشيخ بعيون باكية : لقد حان الوقت لتعود إلى أهلك، و لن أمنعك أكثر من ذلك، لقد كنت لي السند و العضد، كنت لي الأنيس و الجليس، أنت حقا الإبن الذي لم ينجبه صلبي، و لكن قبل أن ترحل سأعطيك نصائح ثلاث تغنيك عن كل كنوز الدنيا كلها.
فرد عليه إبراهيم : كلي آذان صاغية
الشيخ : و لكني أطلب منك ثمنا لها
إبراهيم : و ما هو الثمن أيها الشيخ الفاضل
الشيخ : أريد نصف حلالك من الأغنام
فكر إبراهيم قليلا و هو ينظر إلى قطيعة : كيف أفرط في شقاء سنوات من أجل ثلاثة نصائح فقط ؟ و لكن هذا الشيخ دائما يوفي بوعوده و إن قال أنها ستكفيني كنوز الدنيا فإنه صادق.
و بالفعل وافق إبراهيم على طلبه، فابتسم الشيخ و ردد في قرارة نفسه : الحمد لله، نظرتي فيك لم تخب، حقا أنت كريم الأصل، الغنى ......... غنى النفس و ليس غنى المال و الجاه.
إسمعني جيد ا يا إبراهيم:
النصيحة الأولى : من الفضول ما قتل، فلا تكن فضوليا، أنظر و اسمع و لا تسأل
النصيحة الثانية : استشر عقلك، و لا تستشر عقل غيرك في مسألة أنت ملم بها أكثر من غيرك.
النصيحة الثالثة : يا إبراهيم ... إياك ثم إياك و اتخاذ القرارات في لحظة غضب، فتصبح على ما فعلت نادما، الغضب يقتل البصيرة، و يلغي العقل.
حقا إنها نصائح تغني عن كنوز الدنيا، فأحسن إبراهيم شكره و امتنانه للشيخ و سلمه نصف حلالة برضا كامل و ودعة وداع الإبن البار لوالده و رحل يشق طريق العودة بعد أن تزود بما يكفيه مشقة السفر.
مضى على مسيرة إبراهيم أسبوعا كاملا و هو يحلم بلقاء توأم روحه الذي خلفه وراءه عشرين عاما كاملة، و قد هبط عليه الليل السابع بالقرب من غابة كثيفة، فتوقف يطلب الراحة و النوم ليكمل مسيرته إلى أهله، و اتكأ إلى جدع شجرة ضخمة و أسدل جفونه مستسلما للموت المؤقت، و فجأة أرعبه صوت جهوري : مرحبا بالضيف الكريم.
فانتفض إبراهيم واقفا مكانه متأهبا لأي حركة مباغتة، و إذا بشيخ مخيف يقف أمامه، ضخم الجثة، عريض المنكبين، و كأنه عفريت الغابة الأسطوري، فرد عليه إبراهيم مترددا: مرحبا بك.
الشيخ : ما عشت و لا كنت، إن سمحت لك بالمبيت في الغابة و بيتي قريب من هنا.
إبراهيم و قد أوجس منه خيفة : لك طول العمر بالصحة و العافية يا شيخي، ما هي إلا سويعات و ينشق الفجر لأكمل رحلتي الطويلة إلى أهلي.
الشيخ : أنا أصر على إكرامك في بيتي، فأكرمني أنت بالقبول.
و هنا وجد إبراهيم نفسحه محاصرا بين هذه الغابة الموحشة و هذا الشيخ المريب، و لكن لا مفر من قضاء الله، فما كان عليه إلا أن وافق، فقام من مقامه و تبع ذلك الشيخ و هو يجر قدميه جرا.
كان منزل الشيخ في وسط الغابة، مخبئا بين الأشجار، مخيفا بقدر مالكه، دخل الشيخ و خلفه إبراهيم مترددا، رحب به الشيخ ترحيبا حارا، و أجلسه في غرفة صغيرة مظلمة لا نافدة بها و لا أثاث، سوى حصيرة بالية تتوسطها مائدة هرمة، عليها شمعدان من ثلاثة رؤوس، يحمل شمعة واحدة في الوسط، ثم غادر الشيخ الغرفة و هو يبتسم في وجه إبراهيم الخالي من أي تعبير معلقا : سأحضر لك العشاء.
و صك باب الغرفة خلفه ببطء شديد.
بقي إبراهيم منفردا في تلك الغرفة المخيفة، و كان ظله أمامه على الجدار يتراقص على طبول لهب الشمعة الوحيدة، حتى فاجأه أزيز الباب يفتح من جديد ........ زززززززززز ز ز ز ز ز
و دخل الشيخ يحمل بين يديه خوان، و هو ينظر إلى إبراهيم نظرة معناها : حان الوقت.
وضع الشيخ الخوان بين يدي إبراهيم معلقا : هيا... بسم الله
نظر إبراهيم إلى عشائه، و جحظت عيناه، يا إلهي .....................................
كان العشاء كسكسا، و قد وضع فوقه ماذا ؟ يدين آدميتين مطبوختين ........ هذا ما كان ينقص إبراهيم.
و هنا رفع إبراهيم نظره إلى وجه الشيخ الذي بقي قائما على رأسه و قد تغيرت نظرة هذا الوحش الليلي.
و طلع الصباح فسكتت شهرزاد عن الكلام المباح.
هههههههههههههه أمزح أمزح سأكمل القصة.
و هنا رفع إبراهيم نظره إلى وجه الشيخ الذي بقي قائما على رأسه و قد تغيرت نظرة هذا الوحش الليلي، و قبل أن يبادر إبراهيم الشيخ بسؤاله أن ما هذا الذي فوق الكسكس؟ إلا و قد تذكر النصيحة الأولى : من الفضول ما قتل، فلا تكن فضوليا، أنظر و اسمع و لا تسأل.
فابتسم إبراهيم في وجه الرجل ( لكن قلبه كان يرجف كعصفور بلله المطر ) ثم حمل الملعقة بيمناه و ذكر إسم الله و بدأ يأكل، و اندهش الشيخ من تصرفه و انعكست على وجهه نظرة استغراب، و لما فرغ إبراهيم من عشائه حمد الله ثم التفت إلى الشيخ و شكره و أثنى عليه.
أما الشيخ فابتسم له ثم سأله : ألن تسأل ما هذا ؟
إبراهيم : أسأل عن ماذا يا شيخي ؟
الشيخ : العشاء
إبراهيم : من قلة الأدب أن يسأل الضيف مضيفه عن مصدر الطعام، و أنت يا شيخي أكرمتني و دعوتني إلى بيتك، و لم تقصر في إكرامك لي، و لولاك لكنت الآن نائما في العراء، أتحسس هجوم وحوش الغابة علي و على قطيعي من الغنم.
الشيخ ( متعجبا ) : أنت أول رجل لا يسأل عن هذا الطعام الغريب، أتعلم أن هاتان اليدان المقطوعتان كانتا لضيف مر من هنا منذ أيام، فضوله جعل من يديه طعاما لك، و لولا رجاحة عقلك لكانت يداك تزين طبقا فاخرا من الكسكس للضيف الذي يأتي بعدك.
و هنا بلع إبراهيم ريقه الناشف و هو يتساءل في عقله: أي منطق هذا !!!!!! ؟
ثم أضاف ذلك الشيخ : أكثر ما أكره في هذه الدنيا هو فضول الناس، لذلك أقسمت على نفسي أن أنظف هذه الدنيا من جميع الفضوليين، و كلما سألني واحد عن مصـــدر اليـديــن قــتــلته و قصصت يديه، و جهزتهما للضيف الذي يأتي بعده و هكذا دواليك، أما الآن أتركك لتنــام يا ولــدي، تمـنى له ليلة سعيدة و انصرف.
أما صديقنا إبراهيم فلم يغمض له جفن،
و مع أول خيوط الفجر، تحضر إبراهيم لمغادرة ذلك المكان المخيف، فاستوقفه الشيخ : إنتظر .... خذ هذا إنه لك.
نظر إليه إبراهيم فوجده صندوقا خشبيا فسأله مستفسرا : ما هذا يا شيخي ؟
الشيخ ( و هو يفتح الصندوق ليكشف عن قطع ذهبية ) : إنها جائزتك على تخطي الإمتحان.
إبراهيم ( مترددا ): و لكن ..........
فزجره الشيخ : كفى ... أنا أصر
فسارع إبراهيم للإمساك بالصندوق و هو متعجب من تصرف هذا الشيخ الغريب، شكره ثم إنصرف عنه يسابق الزمن للوصول إلى حبيبة قلبه روضة.
و مــر عليـــه أسبوع آخر و لم يبقى له سوى مسيرة ثلاثة أيام ليصل إلى بيته، و في الطريق التقى برجلين كانا صديقي طفولته، شريف و كامل و كانا يسكنان في القرية المجاورة لقريته، و ما إن رأوه حتى هللوا في وجهه و احتضنوه، و أمطروه بوابل من الأسئلة عن رحلته التي طالت، ثم عرضوا عليه أن يسلك معهما الطريق الشرقي المختصر الذي يقع بين الجبل و الغابة، فبذلك سيختزل مسافة يوم و ليلة، عوض أن يسلك الطريق الغربي الذي سيتطلب منه مسيرة ثلاثة أيام ليصل. لكنه رفض اقتراحهما، فكان يفضل الطريق الغربي رغم طول المسافة إلا أنه طريق آمن و يحفظه عن ظهر قلب، و أوشك أن يذعن أمام إلحاح صديقيه، فقد كان شوقه لزوجته يكاد يقطع أوصاله، و فجأة تذكر النصيحة الثانية : استشر عقلك، و لا تستشر عقل غيرك في مسألة أنت ملم بها أكثر من غيرك،
و هنا تأسف لصديقيه و ودعهما على أمل لقائهما في قريتهما و انصرف عنهما، واصل إبراهيم مسيرته و بعد ثلاثة أيام وصل إلى القرية التي يقطن بها صديقيه شريف و كامل، و إذا بحشد من الناس يحملون تابوتين، متوجهين بهما إلى مقبرة القرية، فأيقن أنها جنازة فسأل أحد المارة عن صاحبيها، فرد عليه : إنهما شريف و كامل، توفي أول أمس و هما يجتازان الجسر الذي تهدم و وقع
و هما عليه فأود بحياتهما، فصعق إبراهيم من هذا الخبر المؤلم : إن لله و إن إليه راجعون،
رحمهما الله، لو أخد بنصيحتهما لكانت اليوم جنازته، فترحم عليهما و حضر الجنازة، ثم واصل طريقه إلى قريته و قد أحس بالنبض يعود لقلبه نبضا ... نبضا، كيف و هو لا يفصله إلا ساعات عن ملقى حبيبته، و أصبح يحث قدميه التي تعبت من كثرة المشي وها هو الآن يقف عند باب بيته و قد أوشك الليل على منتصفه، يريد أن يفاجئ روضــة بعودته سالما غانما، تسلق جدار المنزل و دخل يتسلل إلى غرفته و ما إن رفع الستار: حتى تفاجأ بمنظر رهيب اقشعر له بدنه و مرت حياته أمام عينيه مختصرة في ثواني.
و جد حبيبته تنام كالملاك السحري و شعــرهــا الحريــري منسدل على الوسادة و بجانبها رجل ... نعم رجل ينام على فرشه الذي حرم نفسه منه عشرين سنة، فقط ليوفر لها عيشا كريما، أين كان هو كل ليلة ينام بارد الحضن و القلب في حين استبدلت هي حضنه بحضن رجل آخر، و هنا سحب خنجره الذي ورثه عن والده و اقترب منهما، و هو يردد في قلبه النازف : سأذبحه بين أحضانك، ثم أقتلع عينيك و لسانك و أرمي بك في مكان مهجور لتموتي موتة الكلاب المتشردة.
و اقترب منهما و وضع الخنجر على عنق الرجل، و هم بقطع شريانه و فجأة تذكر النصيحة الثالثة : إياك ثم إياك و اتخاذ القرارات في لحظة غضب، فتصبح على ما فعلت نادما، الغضب يقتل البصيرة، و يلغي العقل.
فاصطدم صوت العقل بصرخة القلب، صعب .... صعب جدا أيها الشيخ الفاضل، زوجتي بين أحضان غيري، يا إلهي لا أستطيع أن أصبر لحظة واحدة تحت جناح خيانتها،
إياك ثم إياك ..... إياك ثم إياك .... إياك ثم إياك
و أصبحت هذه الكلمات تتردد في عقله دون توقف ، فهدأت ثورته، سحب خنجره و خرج إلى فناء الدار، و جلس كالغريب، جلس يحتضن ركبتيه و ألقى بظهره على الجدار البارد و انحدرت دمعتان ساخنتــان مــن عينيه، و سرعان ما غفي و استسلم للنوم العـمـيق، كان تعبا كجندي من المشاة حــارب مــن أجل وطنــه و أرضه ليكتشف في الأخير أن لا أرض له و لا وطن، و جاء الصباح و ظهرت الشمس رغم كل الغيوم و فجأة فتح عينيه ليراها أمامه واقفة شاخصة النظر، فاغرة الفاه،
فقام أمامها منتصبا، ينظر إليها بعيون حمراء كالجمر، فابتعدت هي عنه و كأنها رأت شبحا، ثم ركضت مبتعدة عنه إلى داخل الغرفة،
أيتها الخائنة إلى أين ستهربين، لن يحميك مني عشيقك و لا ألف واحد مثله، ثم فاجأته من جديد تركض نحوه ممسكة بيد ذلك الرجل و وقفت معه أمامه، تفاجأ هو من تصرفها هذا، ثم نطقت : أنظر إليه يا إبراهيم .... أنظر إليه
لم يفهم إبراهيم ما يدور حوله و لا حتى ذلك الرجل، و ظلا صامتين ينظران إليها بحيرة،
فقطعت هي صمتهما: أنظر إلى عينيه ... إلى عينيه يا إبراهيم.
فنظر إبراهيم إلى عيون الرجل مباشرة، و هنا تسمر في مكانه: يا إلهي و كأني أنظر إلى نفسي في مرآة قبل عشرين سنة، ثم نظر إلى روضة : ماذا تعنين .... ؟
ثم فتح عيناه على وسعهما : أيعقل أن يكون .........
فقاطعته هي و دموعها تنهمر كسيل عارم : أجل يا حبيبي، إنه إبنك... إبننا ... نصيب.
فاندفعت من عيون إبراهيم دمعتان مباغتتان، و فاجأه إبنه يلقي يجسمه عليه معانقا إياه مرددا : الحمد لله الذي استجاب دعائي و أكرمني بلقاءك يا أبي.
بقي إبراهيم متسمرا في مكانه، و هو يعيد شريط الأمس، لقد أوشك على ذبحه، ذبح إبنه، فلذة كبده.
أجل لقد كان إبنه نصيب، ثمرة حبه، فبعد مغادرته القرية بأسابيع، إكتشفت روضة أنها حامل.
و هنا خر ساجدا على ركبتين صارخا أن رحماك ربي........... إرحم ذلك الشيخ في محياه و مماته.
.............. إنتهى