كان حفل الزفاف رائعا، و كانت العروس أروع، أما العريس فظن أنه يعيش ليلة من ألف ليلة و ليلة، القصة العربية التي يفتخر بها كل العرب، بعد انتهاء الحفل أخد الفارس أميرته، و تسللا معا إلى الغرفة البيضاء في فندق فاخر، يريد أن يهديها ليلة العمر، لأنها الليلة الوحيدة التي لا و لن يضيع سحرها على طول الزمن وسط روتين الحياة اليومية، و في اليوم الموالي طار بها خارج حدود البلاد لقضاء شهر العسل.
و مر شهر كامل في لمح البصر و كأنه يوم واحد، و عادا إلى شقتهما الفاخرة، التي قام بتجهيزها بنفسه قطعة... قطعة، و لمسة ... لمسة لتليق بأميرته الهاربة من قصص العشق العربية.
و مر عام كامل و هو يدللها، و يخاف عليها من النسيم إذا داعب خديها... فقد أحبها من أول نظرة، حين رآها في حفل زفاف أحد أصدقائه.
كانا يعيشان كأي زوجين عاديين، إلى أن استوقفه في يوم من الأيام أحد جيرانه، هذا الأخير يسكن معه في نفس العمارة التي تضم فقط أربعة شقق.
ألقى عليه التحية ثم سأله، هل يقربك المحامي فلان؟
فرد عليه : لا .... لم تسأل ؟
فأجابه : لقد رأيته يتردد على العمارة عدة مرات، سألت الجارين الآخرين فنفيا علاقتهما به، فبقيت أنت، فقلت عسى أن يكون من معارفك لأني أريد استشارته في قضية، و أنت تعلم حال المحامين في هذه الأيام، فقط من أجل استشارة صغيرة يطلب الشيء الفلاني، حتى بتنا نخشى أن نلقي عليهم التحية ، و ختم تعليقه بابتسامة غير مفهومة ... ثم رحل.
أما بطلنا الأمير فلم يعر الأمر اهتماما، و توالت الأيام و بدأ الحديث يكثر، عن شبح الليل الذي أصبح يتردد على العمارة ليلا و على نفس الشقة، مع تزامن غياب أميرنا المتيم عن بيته.
بطلنا كان يغيب عن بيته مرتين في الأسبوع بحكم عمله، لأنه كان يعمل طيارا في الخطوط الجوية للطيران،
في بداية الأمر اكتف الجيران بمحاولة لفت انتباه الزوجة بطريقة غير مباشرة أنهم أصبحوا يعرفون سرها النتن علّها تتوقف، و لكن لا حياة لمن تنادي .
و أصبحوا بين المطرقة و السندان بعدما تأكدوا من صحة نواياهم و شكوكهم، هل يكتمون عنه الأمر، عسى أن يهدي ها الله، فتخشاه في زوجها فتتوب عن ما تفعله؟ أم يخبرونه الحقيقة ؟ ولكن من يضمن أنه لن يتهور فيتسبب في ضياع نفسه بقتلهما انتقاما لشرفه....
و مع هذا لا بد له أن يعرف.
و اتفق الجيران الثلاث على وضع حد لهذه المأساة، و في يوم من الأيام تقدم منه أحدهم و أخده على جنب بعد صلاة العشاء، و قال له :
- يا أخي، لقد وصانا الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم على سابع جار، و نحن جيران مند مدة لم نر منك إلا كل طيب، و لكن هناك ما يؤرقني، و يعذب ضميري كلما رأيتك تمر أمامي ، فأرجوا أن تسمعني و أن تحكم عقلك قبل قلبك، المسألة و بكل اختصار، أن رجلا أصبح يتردد على بيتك و في غيابك و قد تأكدت أنه ليس من أقربائك و لا من أقربائها.
في هذه اللحظة بالذات، ما من احد يستطيع أن يتصور ما كان يدور في رأس أميرنا المخدوع، بقي ينظر إلى وجه الرجل في ذهول و كأنه لا يفهم لغته.
- أرجوا أن تتعامل مع هذا الوضع بحكمة، كما أرجوا أن يكون ظني في غير محله، هكذا ختم الجار حديثة و انصرف بعيدا عنه.
بقي هو مسمرا في مكانه، عن من كان يتحدث هذا الرجل، عن زوجتي، توأم روحي، أكيد هناك التباس، أيعقل؟
رغب أن يركد في الشارع كالمجنون، فلم تطاوعه قدماه
رغب في الصراخ كرجل الكهف الأسطوري، فخذله صوته
و تردد السؤال الوحيد و المعتاد في مثل هذه المواقف.... لماذا ؟
عاد إلى بيته، دخل كالمعتاد، اتجه نحوها قبلها على جبينها، و ابتسم في وجهها:
- آه .......... لو تعلمين كم أحبك؟
فأجابته لست مضطرا لقولها فأنا أعلم ذلك،
و هو ينظر إلى عينيها الجميلتين، كانتا تبدوان صادقتين، تنفيان كل شهادات العالم على أنها قد تخونه.
و مر أسبوع، و بطلنا الأمير في صراع مرير مع حبه المجنون لها و شرفة المطعون، لن يستطيع العيش من دونها، و لن يستطيع العيش من دونه.
و جاء اليوم الحاسم، يوم سفره، بعد الغذاء حضر حقيبته الصغيرة كالمعتاد، ودعها بعناق حار، حتى أنها أحست باختناق، تمنى لو أنها تموت بين ذراعيه. فقالت له : ما بك؟ و كأنك لن تعود أبدا ؟ فأجابها أجل و من يدري ؟ قد لا أعود إليك أبدا، و رحل تاركا لها علامة استفهام على وجهها.
و لكنه لم يسافر، بل مكث عند أحد أصدقائه منتظرا هبوط الليل، فالأشباح لا تظهر إلا في الظلام، و مرت تلك الساعات كأنها دهر كامل، و ما أن تطفل الليل الهادئ على المدينة، حتى حان الموعد، حمل نفسه المنكسرة و اتجه إلى بيته و احتكر زاوية مظلمة كانت مخبأ لبعض المراهقين لتدخين سيجارة بعيدا عن مراقبة الأهل، و مكث طويلا حتى تجاوز منتصف الليل، و لم يظهر الشبح، و بدأ الأمل يتسلل إلى قلبه، راجيا أن يكون الجار على خطأ، و فجأة لمح سيارة من بعيد، تسير بسرعة تكاد منعدمة، توقفت في زاوية الشارع المقابل، و بعد لحظات نزل منها رجل، يلتفت يمينا و شمالا، قطع الطريق و التصق بالجدار و هو متجها إلى العمارة التي يسكن بها، تسارعت دقات قلبه، و طار عقله و هو يلمح الشبح يدخل العمارة.
أحس بتدفق دم ساخن إلى رأسه، يكاد يغمى عليه، يداه ترتعشان، رجلاه.... أين هما؟ لم يعد يحس بهما.
- يكفى ... ضرب رأسه على جدار الزاوية، يكفى، ما عاش رجل أذلته امرأة حتى و إن كانت توأم روحه.
انتظر قليلا من الوقت، ثم أخد نفسا عميقا و صعد سلم العمارة على مهل، وقف أمام الباب برهة من الزمن، أدار المفتاح ثم دخل يتسلل كلص مبتدئ، أول ما وقع نظره عليه ، كانت مفاتيح سيارة الشبح، موضوعة في المكان الذي تعود هو أن يضع مفاتيحه فيه، و هنا قطع الشك باليقين، جاب بنظره في أركان الشقة المعتمة، ثم لمح ضوءا ضئيلا يخرج من تحت باب غرفة نومه، اتجه صوبها فتح الباب على مصراعيه، أنار الغرفة ... و وجدهما على سريره المخملي المستورد من الخارج، انتفض الرجل قائما يرتجف، أما هي فبقيت مسمرة في مكانها و كأنها رأت شبحا، أما هو فبكل هدوء و ثبات نظر إلى الرجل الشبح ثم نطق بكل رزانة :
- ما اسمك ؟
رد الشبح بصوت متقطع : كمال
- حسنا يا كمال ارتدي ملابسك،
فراح الشبح يرتجف و لم يدر ما يصنع
- ها هو سروالك على الأرض، إرتريه.............
- ارتدي قميصك ........
- أين هي جواربك؟ آه ها هي إنها هناك بجانب الكرسي،
و لما فرغ الشبح المرتجف من ارتداء ملابسه، وقف ينتظر العقاب
هل سيكون مسدسا، خنجرا، أم شرطة الآداب ؟
حدث كل هذا و زوجته شاخصة البصر و كأنها تمثال حجري منحوت
ثم نطق : الآن تستطيع أن تنصرف يا كمال
فنظر إليه الشبح غير مصدق ؟
- هيا قلت لك انصرف، آه تذكرت ألن تعطي زوجتي ثمن إمتاعها لك ؟
فرد الشبح في ذهول : ماذا ؟ أعطيها المال ؟
- طبعا ...لقاء خدماتها لك ... أم كنت تريد ذلك مجانا ؟
أخرج الشبح محفظة المال من جيبه و هو يرتجف، سحب كل ما كان فيها من المال و وقف ينتظر ردة فعل الزوج،
- مهلا .... الحق حق، أنا لا أريد كل مالك، بل أريد الثمن الحقيقي، لنقل دينارا واحدا يكفي.
فبحث الشبح عن دينار، و أمسكه بين أصابعه،
- بما أني زوجها، أنا من سيأخده
تناول الدينار، وطلب منه أن ينصرف.
فخرج الشبح راكدا من الغرفة، قبل أن يغير الرجل رأيه.
أما بطلنا، خرج من الغرفة في هدوء تام و هو يلعب بالدينار، يلقيه في السماء إلى أبعد حد ثم يلتقطه.
أما هي فلم تفهم حقيقة تصرفه، هل يعقل أنه جن من هول الصدمة، أم انه يخطط لشيء آخر.
و في الصباح و عندما خرجت من غرفتها وجدته جالسا على طاولة الإفطار ممسكا بجريدة يومية كعادته و طلب منها تحضير الفطور و بسرعة لأنه جائع.
لم تفهم ما يدور في رأسه، كل ما كان عليها هو الانتظار.
أحضرت الفطور، و ضعته على المائدة، فطلب منها الجلوس بكل رفق، فلطالما كانت فاتح شهيته، فجلست، و ما كادت تفعل حتى أخرج الدينار من جيبه و بدأ يلقيه في الهواء ثم يلتقطه أمام ناظريها، و كان الدينار يصعد في الهواء يدور و يلمع، منعكسا في عينيها الواسعتين، و في هذه اللحظة انفجرت : لم تفعل بي ذلك؟ هيا أقتلني ...اضربني ... اشتمني ...... ارميني خارج المنزل ......
أرجوك أن تفعل شيئا ... أرجوك لا تبقى هكذا، ما بك ؟ أين هي رجولتك؟ لقد خنتك .. أجل خنتك، هل تريد أن تعرف السبب ؟ لقد كان كمال حبي الأول و لا يزال، أما أنت فقد تزوجتك مرغمة من أهلي لأنهم رأوا فيك الزوج المناسب لي.
أما هو فلم يعرها أي اهتمام بل واصل اللعب بتلك القطعة و هو يبتسم، فما من تبرير لخيانة المرأة لزوجها، المرأة التي ائتمنها على اسمه و عرضه.
و مر يومان و هو على ذلك الحال، و في اليوم الثالث، تلقى دعوة على العشاء من طرف والدها، فأخد زوجته و ذهبا، و على مائدة العشاء، أين كان يجلس والديها و أشقاءها الثلاث، سحب القطعة النقدية و بدا يلقي بها في الهواء ثم يلتقطها، أمام ناظريها، فحبست هي أنفاسها و جحظت عيناها، استغرب أفراد عائلتها تصرفه هذا، فسأله أحد إخوتها : ما بلك و هذا الدينار؟ دعه من يدك و أكمل عشائك، فرد عليه آه لو كان هذا الدينار يتكلم، لأخبركم قصة لن تصدقونها أبدا.
فرد عليه والدها : قصها أنت علينا إذا، دعنا نستمتع بها.
فرد عليه لك ذلك يا صهري العزيز، فانتفضت هي من على مائدة العشاء دون أن تنبس بكلمة واحدة و اتجهت كالسهم نحو الشرفة و ألقت بنفسها من الطابق الخامس، لتستقر جثة هامدة على رصيف العمارة.