ناداني من داخل المخبز و أنا لا أزال واقف بمدخل العمارة , و عندما وجدتني أمام ميزان الكفيّن ألتهي بقطع الحديد المرقمّة بالنقوش , ربتَ على كتفي و قال بصوت منخفض : " غريب ..
هذه أول مرة تخطىء فيها يا أستاذ , مالك ؟ المصيبة إذا كان من زمان متابعك .. ألم تره ؟ "
- من ؟
- المستعرب اليهودي .
و نظرتُ من خلف كتفي نحو الشارع . كان شخصاً نحيلاً يعتمرُ قبعة ً مثل قبعّات رعاة البقر , و على وجهه عدسات سود , يمسكُ في يده جريدة تصدرُ باللغة الإنجليزية في الأربعينيات , و
كان المواطن العربي و حتى المثقف لا يحملها في الشارع , و لعلّ ذلك ما لفت انتباه علي و وّلد شكه , غير أنني سألته ثانية ً فيما إذا توافرت لديه تفاصيل أخرى ..
- هل أنت متأكد يا علي ؟
- في الأول طمّني .. امّنتوا سلاح ؟
- للأسف , ما كان على قدر طموحنا , و فوق ذلك تنقصنا عدد من البنادق .
و كنتُ في تلك الأثناء ألتفتُ إلى الرصيف المقابل حيثُ يتكأ ذلك الشخص على عمود الإنارة , و لكنني لم أستطع تبيّن ملامحه بوضوح , لأنه سدّ وجهه بصفحات الجريدة , عوضاً عن
السيارات المارة التي تغيّبه ثم تظهره كأنه شبح في وضح النهار .
سحبتُ الكرسي تحتي و وسدّتُ ذراعي على المنضدة قبالة علي . كان علي يكبرني بعدّة سنوات و مع ذلك لم يتخلَ عن مناداتي بأستاذ , لا أعرفُ كيف أصفه , لا هو بالسمين جداً و
لا بالنحيف جداً , طويل القامة ذو عينين قاسيتين و صوت جاد يتركُ في النفس شيئاً من الأمان , هذا الأمان الذي نفقده اليوم في حيفا , حتى لو تشاكلتُ مع غيداء طيلة الليل على إبقاء
ضوء غرفة النوم مشتعلاً , لم يكن ذلك الضوء كافياً لإبصار حقيقة المستقبل , و لا نعرف أيضاً إلى متى ستبقى هذه الحقيقة مجهولة . اليهود في هجرات مستمرة إلى فلسطين تحدوهم
رغبات في إنجاز كل شيء و بسرعة متقمصيّن كل الأدوار على أرض الواقع . كم باباً فُتح لهم من هذا الجانب أو ذاك , سلطة الإنتداب البريطاني و ما تمثله من جهاز أمني و بوصلة
سياسية بدت للوهلة الأولى شاب شاخ فجأة ً , هكذا ظننا في البداية , و أن ما لليهود من نفوذ و جرأة في قطع الوعود و جمع سرب الطيور الضائع في أسفارهم و المختلف الألوان و
الأنواع تحت شبكة واحدة اسمها الصهيونية ( الطير الكشّاش ) , ليس إلا محاولات بائسة من ضائع في الصحراء بدد طاقته في أول المسير , لكن أي شيء من ذلك لم يصدق . كنّا
عشّ المتوسط الأقرب , و الحقل الذي يحلو فيه للشمس الإنجليزيّة ممارسة غروبها في الحماقات , فما معنى أن تربيّ جرادتين في علبة ثم تطلقهما إلى الحقل ؟ , ثم تختلق المناسبات
و الفرص إحتفالاً بذكرى إنطلاقتهما الأولى , ماذا ينتظر السيد الإنجليزي أن يحصل , لكأنه يقول للعالم .. انظروا , أنا لم أفعل شيئاً .. رافعاً كفيّه , قبل أن ينسحب إلى جادّة المتفرجين
باكياً من بعيد حظّ السُنبلات التعيس . و باباً آخر فتحه الذين وقفوا وسيطاً في سياسة بيع الأراضي لليهود , و كلما فكرتُ في هذا الأمر شعرتُ بالإشمئزاز , فأي عقلية تلك التي
تجعلكَ تعيش على كنف التاريخ و تهمشّه ؟ أشكّ في أن عقول أولئك لم يكن في تجويف رؤوسهم أبداً بل في تجويف آخر يفوح منه رائحة البول . الأرض ليست مجرد تراب محدد
و أشجار و بئر ماء , إن قيمتها الفعليّة بالوجود , و إنها أكثر الأشياء قدرة ً على ربطنا بهذا العالم . و الذكرى التي لو فقدنا الذاكرة ما فُقدتْ , لأنها الذكرى في تجليّها , الحاضر
الذي يركزّ الماضي في جرح , جرح من حجر مهما آلمك ستبني منه بيتك في نهاية المطاف , خلاف لو كان ذلك الجرح من فوهة باردة غريبة عليك مصنوعة في موانىء شتى , فماذا
تنتظر منها غير كومة ٍ من رصاص ...
و فجأة ً صرختُ في علي , و يهيأ لي أنني عدتُ للوعي :
" لا تصلح إلا لرصف القبور ! "
17 \ 8 \ 2009
نلقاكم في الحلقة القادمة ..
إن شاء الله تعالى