
تثاءب "حسام" مسبلا جفنيه المترهلين قهرا بسلطان النوم وهو يطالع في كسل صديقيه "عبد الرحمان" و "سعيد" وهما يصفقان الطاولة الخشبية الأنيقة قبالتهما بأوراق اللعب وعيناهما مثبتتان في رقعة اللعب حيث يضج المكان بأزيز أنفاسهما وهمهماتهما التي تخترقها بين الفينة والأخرى صرخات ظافرة وأخرى منددة متوعدة ...حك ذقنه برهة، ترنح يمنة ويسرة مكانه والضجر يطوق أركانه ، ثم جال ببصره المكان بعد أن ضاق ذرعا من سلسلة الأوراق والأصوات العبثية التي احتلت أفق ناظريه لحين ، ثم مد يده في بطء جاذبا أنبوب النرجيلة-الشيشة - نحو ثغره عسى أن تلتهم ملله سحب الدخان التي تتقاذفها أنفاسه الصاخبة فتبدو كالمخمل المنفوش وهي تتراقص صاعدة صوب السماء....خفض رأسه لبرهة غامرا وجهه بين ذراعيه قبل أن تنتشله همسات حانية من غفوته "هل لي أن أضيف جمرات أخرى أم أغير "المعسل" أم ... "ماذا، نعم.. .لاأدري" قالها "حسام" بنبرة متلعثمة ثم رفع رأسه ببطء فاغرا فاه وتلعثُم لسانه قد استفحل شرودا مطبقا وهو يطالع في انبهار تلك الفتاة الواقفة جنبه وهي تستطرد بلهجة خُجْلى " ماذا بك؟ خيل لي أنك رأيت جنية من فيلق مصاصات الدماء" أتمت كلماتها في غنج وهي تنفث سحب الدخان عبرة ثقب ورق الألومنيوم الملتف حول فوهة النرجيلة...." لاأبدا ...بل خِلت للحظة أن أعماق اليم المتاخم للمقهى قد لفظت حورية من حوريات البحر...بل أجمل حورية رأتها عيني على الأطلاق.."قالها "حسام" وبريق عينيه يحتضن سحنتها الفائقة الجمال وشعرها الأشقر ينسدل متهدلا حول كتفيها ، فيبدو وجهها الأبيض المبلج كقطعة زبرجد وسط كومة من الذهب وقوامها الممشوق يحيل إلى راقصة "باليه" في أوج مجدها ...
أطرقت رأسها خجلا واستمر الحديث لدقائق معدودة وبسمتها الخجلى تكسو محياها ، ثم مالبثت ابتسامتها أن خبت ، وتلك اليدان الأشبه بتوأم أفاعي الأنكوندا تجران شعرها الأشقر بقوة قبل أن ينبعث صوت صاخب وراءها مزمجرا في عنف " تبا لك أيتها ال...ألم تدعي أنك فتاة شريفة ، وأن عملك لن يبارح تلبية حاجيات الزبائن دون الحديث مطولا إليهم... أم ماذا أيتها الصفراء البغيضة.." تحجرت الدموع في عينيها وهي تجيبه والمرارة تعتصر قلبها " لم أحد على عهدي لكن...." قاطعها الرجل ذو الملامح القاسية والقسمات التي تحيل إلى مجرم ضليع في سفك الدماء بنبرة حانقة : " لكن ماذا أيتها الغبية جاذبا خصلاتها بقوة..." ، لم يتمالك " حسام" نفسه حيال ذلك المشهد المريع فقام من مقامه وصخب أنفاسه ينذر بعاصفة هوجاء ستحمل القاصي والداني في طريقها...ارتعدت أوصاله وهو يتقدم بخطوات تلفها نيران الحنق،بيد أن الفتاة هسمت له في أسى: " أرجوك ، لا تكترث لأمري فقد اعتدت هذا للأمر منذ أمد" ..ثم خفضت رأسها قبل أن يبرز رجلان قويا البنية وراء الرجل القاسي الملامح وهما يطرقعان أصابعهما بقوة تعلو شفاههما ابتسامة وحشية...في ذات اللحظة هب صديقاه من مقامهما وطوقاه فيما بينهما وبصعوبة بالغة أقنعاه بمغادرة المكان ،فانقاد لرغبتهما وصورة الفتاة وسط مجمع الأوباش لاتبارح ناظريه...
وفي اليوم الموالي عاد لذات المقهى ناشدا مرآها ، لكن عبثا لم يجد ضالته ، يبدو أنها تركت المكان أو حدث لها شيء ما أجبرها على تركه.. أحس بقوة غريبة تجذبه من ناصيته وهو يقف أمام صاحب المقهى القاسي الملامح مستفسرا إياه عن فتاة النرجيلة الشقراء ..لكنه لم يحصل على ماقد يشفي غليله وهو يجيبه بنبرة جافة:" لم تعد لي حاجة بتلك ال.... فقد ذهبت لحالها وجاءت من هي خير منها ...ثم أشار بنظراته نحو تلك الفتاة الداكنة الشعر سمراء السحنة وهي تتنقل في خفة بين طاولات الزبائن وابتسامتها العريضة لاتفارق محياها... أطرق "حسام" رأسه في أسى ثم تراجع القهقرى يجر أذيال الخيبة متمسكا بأهداب الأمل رغم ضيق بساطه..وصورة فتاة النرجيلة تشع كصفحة البدر في سمائه الدامسة.
مر أسبوع بحاله على فصول المشهد ،قبل أن يرن هاتف "حسام" ذات صبح برنة أذابت جليد شروده وهو يهب من سريره مجيبا في لهفة " ماجدة" معقووول؟خبريني أين كنت طوال هذه المدة ..ولم كان هاتفك مقفلا و..." قاطعته الفتاة الشقراء بنبرة باسمة :" سأشرح لك الأم عزيزي "حسام" لكن ليس الآن ، سأنتظرك قرب باب سور المدينة ، وأتمنى ألا تتأخر في الحضور " قبل أن تتم كلماتها قفز من مقامه راقصا على نغمات الحبور الذي زفته نبراتها العذبة وهي تتسلل بدفء إلى كيانه مزيحة مااعتمل بلواعجه من أشجان..
مرت بضع دقائق قبل أن يجد نفسه ماثلا قبالتها وقد انعقد لسانه على غير العادة وهويطالع في انبهار فتاة النرجيلة وهي واقفة جنب سور المدينة ونسمات البحر تراقص خصلاتها الذهبية وسحنتها البيضاء ازدانت نظارة وقد توردت منها الوجنتان قبل أن يمزق الفتى ستار الصمت اللحظي الذي ساد المكان قائلا في خفوت:" "ماجدة "، أود أن أعرف كل شي عنك ، عن حياتك عن مهنتك كفتاة نرجيلة عن علاقة بصاحب المقهى...أريد أن أعرف كل شيء ..."
شبكت أصابعها متنهدة في عمق ثم مسحت بكفيها جدائل شعرها الأشقر قبل أن تهمس قائلة: " ابتدأت الحكاية منذ مايقارب الأربع سنوات ، عندما أخذت يد المنون والدي ، وتركتنا في مواجهة تقلبات الدهر وقساوة الغربة ، كنت لاأزال حينها طالبة في معهد الصحافة بعاصمة النور الفرنسية..." قاطعها حسام زاويا مابين حاجبيه قائلا :" لاداعي لأن تكملي...واضطرت حينها لترك دراستك ومزاولة مهنتك الجديدة كفتاة نرجيلة وعدت بعدها للوطن بعد أن...." قاطعتها الفتاة بدورها بنبرة عاتبة :" لاتكن متسرعا "حسام" ، من فضلك دعني أكمل حكايتي فلربما خالفت فصولها أفق انتظارك..."، خفض رأسه معتذرا وقد تعرق جبينه قبل أن تستطرد الفتاة حديثها قائلة: " لكن رغم ذلك فقد أكملت دراستي وحققت أمنيتي في أن أصبح صحفية مشهورة بفضل الله سبحانه ثم بفضل والدتي التي ضحت بكل ماتملك في سبيل أن نحيى حياة كريمة وأخوتي، اشتغلت في مجلة شهيرة تعنى بشؤون المجتمع وحققت مقالاتي وتحقيقاتي نجاحا منقطع النظير قبل أن يطلب مني رئيس تحريرها مؤخرا القيام بتحقيق حول عمل المرأة في العالم العربي وماقد يصادفه من إكراهات خصوصا لما يتعلق الأمر بمهن تجعل منها عرضة لمختلف أنواع الاستغلال ، فتبادرت إلى ذهني مهنة فتاة النرجيلة بحكم ماطالعته من قصة حزينة لمعاناة إحداهن " تنفست في عمق مستطردة: " كان الأمر تحديا بأقصى مستويات الخطورة ، لكن رغم ذلك فقد عقدت العزم على خوض غماره ، وقد تمكنت من إتمامي تحقيقي والحمد لله وعلى أكمل وجه"...تسمر "حسام" في مكانه للحظات وفمه مطبق عن الكلام من غرابة ماسمعه قبل أن يتمتم قائلا :"لكن...وماذا عن صاحب المقهى ؟...تخضب وجهه بحمرة الخجل وهو يهمس قائلا : وماذا عني؟ ..." ابتسمت الفتاة ابتسامة جذلة قائلة : " فيما يخص صاحب المقهى ، فلم يكن يعلم شيئا إلا بعد أن ناولته بطاقتي الصحفية ...وقد تنازلت له عن راتبي ، بل وزدته مبلغا إضافيا كي لايبوح بسري" ، أما فيما يخصك...صمتت لبرهة قبل أن تهس في دلال " لا أستطيع البوح الآن... أعتقد أنك أدرى بما يعتمل في قلبي اتجاهك...قالتها مطرقة رأسها وقد انسابت الدماء لتورد وجنتيها خجلا...فيما حاكت حمرة خدي "حسام" حمرة الشفق الذي لاح في الأفق معلنا عن قصة حب بدأت فصولها في أحد مقاهي النرجيلة وتوضحت معالمها قرب سور المدينة قبالة عباب موج بحرها الأطلسي .
