لازالت ذاكرتي تستجدي سحنته الغائرة وسط هلام السحنات التي دلفت إلى جوفها ، فاستقر منها ما استقر وتلاشى منها ما تلاشى ، وحدقتاي تحملقان في تقاطيع وجهه المشبع وجوما ، وتجاعيد رسمت صروف قاتمة تعرجاتها ، وطفحت الاستكانة والخنوع ليسما صفحة وجهه العاكسة لما وراء ذات تتمادى على شفير الصمت والشرود..اقتربت منه بضع خطوات وعيناي مثبتتان صوبه تبحثان عن مطابقة تلوح في الأفق لتلك الصورة المشوشة وسط أكوام الصور ، وإن زال الغموض وتحول المشهد إلى ما يحيل إلى شريط قديم للذاكرة يشبه في تجلياته عرضا من عروض السينما الصامتة ، حيث يخرس سلطان الكلام أمام منطق الحركات ..
تسلقت نظراته طوابق فضولي وهو يرمقني بنظرات ناعسة ، قبل أن يخفض طرفه غارسا يده اليمنى وسط الثرى ، ماسحا بيسراه سحنته التي تعرقت شيئا قليلا وهو يغمغم في خفوت قائلا :" لازلت كلمات أستاذة التاريخ عالقة في أذناي بين أكداس الكلام كأني أسمعها للتو : (بين سبيلي المجد والتردي أمامكما إيماءة سهم ، لن تنفعكما بوصلة ولا اسطرلاب في فك خارطة الوصول لهما ، وكأني ألمح خطاكما تشق الثرى بصمت تحت وقع إيقاعات عبثية ..) ،
ارتسمت ابتسامة محمومة على شفتاي لتذيب جليد الصمت والترقب الذي أطبق عليهما للحظة قائلا " : لم تصدق نبوءة أستاذتنا على مايبدوا ياصاح ..هاأنذا كما ترى ..صحيح أنني لربما ضمنت لنفسي خطوات بعيدا عن هالات التردي ، إلا أنني لازلت أطالع سحائب المجد كما أطالع نجمة الأفق القطبية ..." ، أخرج لفافة مكسورة من جيب بنطاله الرث داسا إياها بين شدقيه المتورمين ، مجيبا في سخرية مماثلة :"عذرا صديقي ، فإني استوطنت في غفلة من الزمن غرفا مظلمة ، فلم يتح لي المجال لأرى بصيصا من النور حتى ، فما بالك بسراب نجمة قطبية .." شخص بصري من جديد صوب سحنته الواجمة فأردفت قائلا :" وما أجبرك على القبوع وسط تلك العتمة ؟ أكانت إيماءة السهم غامضة لهذا الحد؟"
رمى بصره نحو كبد السماء قبل أن يجيبني بنبرة ملؤها الثقة " : لطالما كنت مؤمنا ولازلت بمقولة :" تعود على اعتبار الأشياء العادية .. أشياء يمكن أن تحدث أيضا " ، ثم أردف قائلا :" أليس التردي شيئا عاديا ، وارد الحدوث تماما كالمجد ، كالميلاد والموت ، كالمرض و المعافاة ، كالتعقل والجنون ..؟ " أجبته في خفوت : "بلى ...لكن ..." ، قاطعني وهو يستطرد قائلا " : لربما حُكم عليّ أن أختار في بدء المسير بين سبيلين ، لم أتبين على أي أسفلت ستطأ قدماي ، ولا أدري حقا كيف جرت الأمور بالتحديد ، لكن يبدوا أن إيماءة السهم قادتني لما تراه ، هي خطوات فقط بين سبيلين .." قاطعته بدوري قائلا : " لا ادري حقا إن كانت خطواتك تزحف مجردة عن سلطان باقي الأركان ، لكن إن كانت الأشياء العادية ، أشياء يمكن أن تحدث أيضا ، فعادي جدا أن تعج سبل التردي بمن هم على شاكلتك ..ممن استحالوا بوطء أقدامهم على ثراها مجسمات بشرية مكتنزة ظاهرا جوفاء جوهرا..ما أقسى تسللك إلى عمق العدم يا صاح " ، انتبهت فجأة إلى أنني كنت قاسيا عليه في كلامي أكثر من اللازم ، فهممت أن أعتذر عن ما بدر مني ، إلا أنني فوجئت بثغره متماهيا في ابتسامته الساخرة وهو يجر الخطى بصمت قائلا دون أن يلتفت : " لعلك محق فيما قلتَه ، أو لعل قناعتي بإيماءة السهم ومنطق الأشياء العادية أقوى من أن تنبشها نشاب كلماتك ، قد يكون قدري أن أتماهى في مسيري نحو نهاية هذا السبيل ، وإن كان التردي منتهاه ، وقد يكون قدرك اللحاق بي يوما ما... وسأظل مرتقبا لشاكلة كلماتك حينها ، ...وأرجوا صدقا ألا يحدث ذلك..." قالها واستطرد في حديثه وخطاه تجره نحو وجهة سرابية وصدى صوته يخفت وطيفه يتوارى شيئا فشيئا وراء أكوام بشرية تقرع نعالها على أسفلت مزدوج لسبيلين. فيما استجمعت خطواتي وسرت وئيدها مغرقا في لجة التفكير والنظر إلى ما وراء خيط رفيع يبدوا في الأفق حيث الفيصل بين سبيلين يرفلان على طرفي نقيض.