تتنأول الدراسات القانونية عادة موضوعات محددة ضمن اختصاص معين في علم القانون سواء ضمن القانون العام أو الخاص أو القانون الدولي أو الداخلي ، أو ضمن فرع معين بذاته من فروع التقسيمات الرئيسة المذكورة آنفاً . ولكن تحديد نطاق أي بحث أو دراسة لكي يكون تحديداً دقيقاً ومفيداً ومحققاً لأغراضه يجب ان يراعي طبيعة البحث وأهدافه ومن ثم وبالنظر الى تطور علم القانون وازدياد نطاق العلاقات التي ينظمها ، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي وتداخلها ، فان هناك دراسات معينة قد تحتاج إلى توسيع نطاقها لتشمل اكثر من اختصاص من اختصاصات القانون بشكل عام، لكي تكون مفيدة وكافية لتحقيق الغايات المرجوة منها ، وذلك على أساس وجود عدة عوامل مشتركة بين هذه الاختصاصات تدعو إلى توسيع نطاق الدراسة لتجمعها كلها ولربما قد يؤدي ذلك إلى تكوين اختصاصات قانونية جديدة على أساس وجود أهداف مشتركة أو محل مشترك لتطبيق القانون أو طبيعة مشتركة مما قد يؤدي إلى ان تكون بعض القوانين سبلا أو وسائل لوصول القوانين الأخرى إلى تحقيق أهدافها، على أساس التكامل والتعاون المتبادل.
وعلى هذا الاساس كان اختيار موضوع وعنوان هذه الدراسة لتجمع بين كل من القانون الدولي لحقوق الانسان والدستور ذوي الصلة الوثيقة بحقوق الانسان على فرضية امكانية قيام علاقة ايجابية بينها تقوم على اساس التعاون وتتجه الى التوصل الى اعمال حقوق الانسان بشكل عام من خلال امكانية ايجاد دور واسهام ايجابي لدساتير الدول في عملية تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان . وقد جاء اختياري لهذا الموضوع بالذات والمتصل بعملية تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان استكمالاً لدراسة سابقة لي في مرحلة الماجستير كنت قد تناولت فيها موضوع (التدخل الانساني) والذي يعد اهم واقوى الية عملية لحماية حقوق الانسان ومن ثم تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان ، حيث كنت قد توصلت وبعد البحث في ذلك الموضوع الى انه وان كان لهذه الالية اهمية كبيرة في حماية حقوق الانسان فانها لا تمثل الضمانة المثالية المتكاملة لعملية تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان ، حيث ان هذا التدخل يقوم بدور علاجي نسبي لحالات نوعية محددة ومحصورة من انتهاكات حقوق الانسان ووفقاً لشروط وضوابط قانونية معقدة ، وفضلاً عن ذلك فات تفعيل هذه الالية قد يشو به بعض الاشكالات ويرافقه الكثير من الحساسيات والمحاذير السياسية والقانونية على صعيد العلاقات الدولية ، ويرجع ذلك الى كون التدخل وبشكل عام يعد امراً شاذاً واستثنائياً على صعيد العلاقات الدولية ومن وجهة نظر القانون الدولي العام في اغلب الاحوال . وامام هذه الاشكاليات التي ترافق عملية اللجوء الى التدخل الانساني كوسيلة لتطبيق القانون الدولي لحقوق الانساني ، واذا كان هذا القول يصح بالنسبة لاهم واقوى الية للتطبيق ، فان القانون الدولي لحقوق الانسان قد يبقى بعيداً عن التطبيق كما ينبغي وكما هو مقرر وفقاً لاحكامه ، الامر الذي قد يعني تفاقم المعانات الانسانية واستمرار الحرمان من التمتع بايجابيات اعمال حقوق الانسان واذا كان الاثر السلبي لعدم تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان يأتي بضلاله السلبية على عدد كبير من دول العالم فان المسألة تكون اكثر جدية بالنسبة للدول المتأخرة أصلاً في مجال احترام حقوق الانسان والتي تعاني من تخلف في قانونها الداخلي فيما يخص هذه المسألة ، حيث ان تخلف القانون الداخلي في مجال حقوق الانسان لا يأتي باثره السلبي المباشر على هذه الحقوق فحسب بل انه قد يؤثر عليها سلباً من خلال الحاقه تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان ، ذلك القانون الذي قد يوفر الفرصة لعملية التطوير الايجابي للقوانين الداخلية في سبيل خدمة حقوق الانسان .
واستناداً الى ما تقدم واذا كان من الممكن ان يكون للقوانين الداخلية دوراً سلبياً مباشراً في عدم اعمال حقوق الانسان او دوراً سلبياً غير مباشر في ذلك من خلال اعاقة عملية تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان ، فان السؤال المهم الذي يثار هنا هو حول مدى امكانية ان يكون للقانون الداخلي ذو الدور السلبي سابق الذكر دوراً ايجابياً عاماً في عملية إعمال حقوق الانسان ؟
من المعروف ان القانون الدولي لحقوق الانسان وجد كمجموعة من القواعد الدولية ، بهدف الوصول الى تفعيل فكرة حقوق الانسان بوسائل دولية ، ويكون ذلك من خلال التأثير في سلوك الدول بما ينسجم مع هذه الفكرة . وانه ولتحقيق ذلك واستناداً الى ما تقدم قد يسعى الى التأثير الايجابي في القوانين الداخلية للدول للوصول الى تطويرها بما يخدم حقوق الانسان وبالتالي فان هذا يؤدي الى ان يكون لهذه القوانين الدور الايجابي المباشر في إعمال حقوق الانسن والدور غير المباشر في ذلك من خلال الاستمرار في التطور لمواكبة القانون الدولي في هذا المجال . واستناداً الى ما تقدم واذا كان القانون الدولي لحقوق الانسان يمثل الوسيلة الدولية الاهم لاعمال هذه الحقوق فكيف تستطيع هذه الوسيلة التأثير الايجابي في القانون الداخلي ؟ وكيف تستطيع ان تحقق افضل التطوير فيه بما ينسجم وفكرة حقوق الانسان ؟
من المعروف ان إعمال حقوق الانسان يمثل الغاية من وجود القانون الدولي لحقوق الانسان وانه ولهذا الغرض لا بد ان يسلك افضل السبل واسرعها واضمنها لتحقيق هذه الغاية. واستناداً الى فكرة القانون عموماً وفكرة القانون الدولي لحقوق الانسان على وجه الخصوص فان الوصول الى هذه الغاية لا بد من خلال اكثر السبل فاعلية وقابلية على تطوير وحكم وتوجيه القوانين الاخرى الا وهو سبيل الدستور باعتباره القانون الاعلى في الدولة والذي يجب ان تخضع له بقية القوانين وكافة اوجه النشاط والعلاقات في الدولة استناداً الى فكرة سمو الدستور والمرتبطة بطبيعته كقانون اساسي . واذا كان للدستور هذه المزايا القانونية العامة فقد تكون له اخرى خاصة ومرتبطة بحقوق الانسان استناداً الى كون فلسفته قد تكون قريبة موضوعياً وتاريخياً وواقعياً من حقوق الانسان ولا يعد قانوناً غريباً او بعيداً عن هذا الموضوع . فهل يصلح الدستور وفقاً لنظريته وفلسفة تطبيقه ان يكون السبيل المناسب لتطوير القانون الداخلي في مجال حقوق الانسان من خلال التأثر الايجابي بالقانون الدولي لحقوق الانسان ؟ واذا كان الامر كذلك في النهاية فهل يمكن ان يغنينا التفاعل الايجابي بين القانونين عن اللجوء الى وسيلة التدخل الانساني في سبيل اعمال حقوق الانسان ، وبالتالي هل يمكن ان يكون دور الدستور هذا بمثابة الوقاية من انتهاكات حقوق الانسان ؟ واذا وقعت انتهاكات لهذه الحقوق وكان هناك عوائق ومشاكل امام تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان فهل يمكن لفكرة الدستور وفلسفته ان تقدم الحلول القانونية لذلك ؟
وتأسيساً على ما تقدم فان اهمية البحث في هذا الموضوع تنبع من اهمية تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان والفائدة من البحث عن حلول عامة لمشاكل تطبيق هذا القانون والتي قد تقود الى مشاكل اكبر من خلال عدم ايجاد السبل المناسبة لحلها . ومن ناحية اخرى فان اغلب الدراسات فيما يخص تطبيق حقوق الانسان تميل الى تناول الموضوع على اساس تحديد اشكاليات تطبيقية بالنسبة لحقوق معينة او مشاكل تطبيقية محددة وتحاول ان تجد لها حلولاً خاصة بها دون البحث عن حلول شاملة ، او ان الكثير من الدراسات تذهب الى معالجة مشاكل معينة في النطاق الدولي حصراً كما هو الحال في اغلب الدراسات الدولية او قد تكون المعالجات محصورة في النطاق الداخلي فقط كما هو الحال في الدراسات الدستورية او في القوانين العادية . في حين ان مشاكل التطبيق قد لا تقتصر على حقوق معينة او في حدود قوانين معينة بل انها قد تكون اوسع من حيث الشمول بحيث انها قد تحتاج الى معالجة اوسع وبطبيعة جديدة تتفق مع مدى حجم المشكلة وخطورتها وشمولها .
وبالنظر الى تشعب موضوع حقوق الانسان وكثرة الاتجاهات والكتابات حوله وارتباطه بالعديد من الموضوعات الجانبية ، ولخدمة البحث واهدافه بذاتها وفي سبيل عدم الخروج عن الموضوع والاعادة والتكرار ، فسوف احاول البحث في الموضوع من خلال التطرق بالتحليل الى ما يتعلق بالموضوع بشكل مباشر وتناول ما يحيط به بالقدر اللازم لخدمة البحث دون الدخول في التفاصيل الجانبية . واكتفي بالاشارة المختصرة الى البديهيات حول الموضوع وما قد تم تناوله سابقاً ولا يغني البحث .
وللتوصل الى اهداف البحث فسوف احاول البحث في مدى امكانية ان يكون لدساتير الدول دوراً ايجابياً في عملية تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان ، ويكون ذلك من خلال البحث في مدى امكانية تأسيس هذا الدور على اساس وجود نقاط التقاء بين كل من القانون الدولي لحقوق الانسان ودساتير الدول ومدى فائدة ذلك لتأسيس علاقة تفاعل ايجابية لخدمة حقوق الانسان ولتفحص مدى فاعلية وايجابية هذه العلاقة فسوف احاول ان اتوصل الى امكانية حل مشاكل تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان من خلال دساتير الدول بعد تأثرها الاولي بالقانون الدولي لحقوق الانسان .
ولخدمة البحث فسوف اقسمه الى ثلاثة فصول اتناول في الاول التعريف بكل من الدستور والقانون الدولي لحقوق الانسان وذلك في سبيل التعرف خلفية كل منهما وبيان مدى العلاقة الموضوعية بينها والفلسفة التي يقوم كل منهم على اساسها وذلك لبيان مدى خدمة ذلك لهدف البحث وامكانية استخدام ذلك للتأسيس للعلاقة التي تخدم حقوق الانسان وتطبيقها .
اما في الفصل الثاني فسوف اتناول جوانب العلاقة القانونية التي يمكن ان تقوم بين كل من القانونين وذلك لتفحصها والتعرف على مدى تكوين هذه الجوانب لاسس ايجابية او سلبية فيما يخص تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان . اما في الفصل الثالث فسوف احاول ان اتفحص مدى امكانية ان يقدم الدستور الحل للمشاكل التي تعيق تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان ويكون ذلك من خلال تناول تطبيق هذا القانون وعرض اهم مشاكل التطبيق ومن ثم بيان كيفية تقديم الدستور الحل لهذه المشاكل بحسب نوعها وطبيعتها . ويكون كل ذلك من خلال محاولة التوصل الى الاستنتاجات المترابطة حول جزئية من الموضوع عند تناولها وتلخيص كل ذلك في النهاية والتوصل الى الاجابة حول مدى امكانية ان يكون لدساتير الدول دوراً ايجابياً في تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان .