تنفيذ الأحكام الإدارية
"الغرامة التهديدية"
"الحجز"
الأستاذ محمد قصري رئيس المحكمة الإدارية بالرباط
مقدمــة
في الواقع لا قيمة للقانون بدون تنفيذ ولا قيمة لأحكام القضاء بدون تنفيذها ولا قيمة لمبدأ الشرعية في الدولة ما لم يقترن بمبدأ آخر مضمونه احترام أحكام القضاء وضرورة تنفيذها وإلا فماذا يجدي أن يجتهد ويبتكر القاضي الإداري في إيجاد الحلول الناجعة بما يتلائم وصون الحقوق والحريات والمشروعية إذا كانت أحكامه مصيرها الموت. فما يطمح إليه كل متقاض من رفع دعواه لدى القضاء الإداري ليس هو إغناء الاجتهاد القضائي في المادة الإدارية بل استصدار حكم لصالحه يحمي حقوقه المعتدى عليها من طرف الإدارة مع ترجمة منطوقه على أرض الواقع بتنفيذه.
إن عدم التنفيذ يضرب في الصميم حرمة وهيبة وقدسية القضاء وتزرع الشك حول فعالية وجدوى قضاء إداري يقتصر دوره على معاينة عدم مشروعية المقررات الإدارية المطعون فيها أو الحكم بالتعويض، إن ذلك يتعارض مع الآمال المعقودة على هذه المحاكم في بناء صرح دولة الحق والقانون فبدون تنفيذ تصير الأحكام عديمة الجدوى والفعالية ويفقد الناس ثقتهم في القضاء ويدب اليأس في نفوسهم وينعدم الأمن والاستقرار وذلك كما يقول صاحب الجلالة الحسن الثاني تغمده الله بواسع رحمته " يجر المرء إلى تفكير آخر هو انحلال الدولــــة.
وإشكالية تنفيذ الأحكام الإدارية يكمن في الأساس في غياب مسطرة فعالة وناجعة لإجبار الإدارة على التنفيذ، فقانون المحاكم الإدارية وكذلك قانون المسطرة المدنية لا يتضمنان الوسائل اللازمة لجبر الإدارة على تنفيذ الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به.
فالمشرع في القانون 90 . 41 من خلال الفصل 49 منه اكتفى بالقول على أنه يتم التنفيذ بواسطة كتابة ضبط المحكمة الإدارية التي أصدرت الحكم ويمكن للمجلس أن يعهد تنفيذ قراراته إلى محكمة إدارية كما أن المادة 7 منه نصت على أن تطبق أمام المحاكم الإدارية القواعد المقررة في قانون المسطرة المدنية ما لم ينص على خلاف ذلك وإذا كانت الأحكام القضائية الصادرة ضد الأفراد الحائزة لقوة الشيء المقضي به تتضمن في مواجهتهم إمكانية التنفيذ الجبري المنصوص عليها بالباب الثالث من قانون المسطرة المدنية فإن هاته القواعد الجبرية المحال عليها بموجب الفصل 7 من القانون 90 . 41 لا نجد لها تطبيقا في مواجهة أشخاص القانون العام لاعتبارات خاصة تحذر التنفيذ الجبري ضد الإدارة تستمد جذورها من نظرية القانون العام كالفصل بين السلطات واستقلال الإدارة في مواجهة القاضي وامتياز التنفيذ المباشر واختلاف الصيغة التنفيذية للأحكام الإدارية عن الأحكام العادية القابلة للتنفيذ الجبري وحسن سير المرافق العام بانتظام وعدم تعطيل وظيفة النفع العمومي، ومن تم يبقى تنفيذ الأحكام الإدارية مرتبط بأخلاقيات الإدارة وامتثالها طواعية للتنفيذ. وعملية التنفيذ في مواجهة الإدارة تنطلق بصدور الحكم الحائز لقوة الشيء المقضي به وتذييله بالصيغة التنفيذية الخاصة بالأحكام المدنية إعمالا للفصل 7 من القانون 90 1. 4 المحيل على قواعد المسطرة المدنية في انتظار تدخل تشريعي وقد يديل هذا الحكم من طرف المحكمة الإدارية المصدرة للحكم أم من طرف الغرفة الإدارية في حالة إلغاء الحكم والتصدي للنزاع وقد ينفذ من المحكمة المصدرة للحكم عن طريق توجيه الملف التنفيذي للعون القضائي المختار من طرف طالب التنفيذ تفاديا للإشكاليات القانونية المترتبة عن توجيه إنابة قضائية إلى المحكمة العادية التي يقع بدائرتها التنفيذ أو بواسطة إنابة لمحكمة إدارية أخرى وبالنظر لما تتمتع به الإدارة من استقلال بسبب حضر التنفيذ الجبري ضدها فهي قد تتما طل أو تمتنع عن التنفيذ وإذا كان المشرع الفرنسي قدسن تدابير خاصة لحمل الإدارة على التنفيذ ممثلة في نظام وسيط الجمهور [1] الذي يتدخل لدى الإدارة المعنية بالتنفيذ لحملها على الرضوخ لقوة الشيء المقضي به داخل أجل معين تحت طائلة تحرير تقرير خاص ينشر في الجريدة الرسمية ويتم الإعلان عنه للعموم، وفي فرض الغرامة التهديدية في حق الإدارة الممتنعة عن التنفيذ [2] من طرف مجلس الدولة أو المحاكم الإدارية هذا فضلا عن إمكانية تغريم المسؤول عن الإدارة المعنية من طرف المحكمة المختصة بالشؤون المالية والميزانية، واعتبار الحكم الصادر بأداء مبلغ مالي بمثابة أمر بحوالة يقدم إلى أمين الحساب العام المختص الذي يقوم بتنفيذه بمجرد الإطلاع عليه إذا كان الأمر يتعلق بتنفيذه ضد الدولة وحتى إذا كان الحكم صادرا في مواجهة جماعة محلية، تحرر السلطة الوصية أمر رسميا بصرف المبلغ المحكوم به ويقيد بجدول ميزانية المصاريف تلقائيا.
وإذا كان المشرع المصري قد قرر جزاءات خاصة تحمل الإدارة على التنفيذ كتقريره للمسؤولية الشخصية للموظف الممتنع عن التنفيذ وتقرير مسئوليته الجنائية بموجب الفصل 123 [3] من قانون العقوبات المصري فضلا عن إثارة المسؤولية السياسية أمام مجلس الوزراء عن طريق تقديم رئيس مجلس الدولة سنويا لتقرير يتضمن ما أظهرته الأحكام والبحوث من نقص في التشريع أو غموض فيه وحالات إساءة استعمال السلطة التي تدخل فيها حالات الامتناع عن تنفيذ الأحكام أو تعطيلها.
وإذا كانت المحاكم الإدارية تعتبر محاكم عادية مندرجة في التنظيم القضائي للمملكة مع تخصصها في المادة الإدارية وأن القول بوحدة القضاء يعني توحيد المسطرة وبالتالي توحيد مسطرة التنفيذ وأن تنفيذ الأحكام الإدارية لذلك يخضع للقواعد العامة للتنفيذ كما هي منصوص عليها بقانون المسطرة المدنية فإنه بالرجوع إلى هاته المقتضيات القانونية نلاحظ غيابا تاما لوسائل التنفيذ الجبري للأحكام الصادرة ضد الإدارة.
وأمام هذا الفراغ التشريعي لم يبقى القاضي الإداري مكتوف الأيدي أمام استفحال ظاهرة امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها بل انطلاقا من دور القضاء الإداري كقانون قضائي يسعى إلى خلق القاعدة القانونية وتكريسا لدوره الخلاق والمبتــكر وانطلاقا من التفسير الواسع لأحكام المادة 7 من القانون 90 . 41 الذي ينص على تطبيق قواعد المسطرة المدنية ما لم يوجد نص مخالف اهتدى القاضي الإداري إلى بعض الوسائل المنصوص عليها بقانون المسطرة المدنية لحمل الإدارة على تنفيذ الأحكام الإدارية الصادرة ضدها كالغرامة التهديدية والحجز علاوة على وسيلتين أخرتين غير منصوص عليهما قانونا ويتعلق الأمر بالتنفيذ التلقائي ضد الإدارة في الحالة التي لا يستلزم تنفيذ الحكم أي تدخل من جانبها [4] وبالمساءلة الشخصية للمسؤول الإداري الرافض لتنفيذ الحكم المكتسب لقوة الشيء المقضي به وإذا كانت هاتين الوسيلتين الأخيرتين قد لقيتا حماسا كبيرا واستحسانا من لدن الفقه [5] فإن قرار المساءلة الشخصية للموظف الممتنع عن التنفيذ لم يكتب له البقاء بعد إلغائه من طرف الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى وقد بقيت الوسيلة الأخرى المتعلقة بالتنفيذ المباشر يتيمة وحالة منفردة لم تتكرر بعد.
وما تجدر الإشارة به أن بعض هاته الوسائل المذكورة أعلاه ليست حديثة النشأة بل كانت موجودة بالعمل القضائي قبل إحداث المحاكم الإدارية وخصوصا الحجز التحفظي والحجز لدى الغير على المؤسسات العمومية وإذا كان بعض العمل القضائي [6] قبل إحداث المحاكم الإدارية قد هجر لأول مرة الاتجاه القضائي الكلاسيكي الذي كان يرفض إيقاع الحجز على أموال المؤسسات العمومية وأشخاص القانون العام لافتراض يسرها طبقا للفصل 138 من ق ل ع وخضوعها لقواعد المحاسبة وإن المجلس الأعلى وقبل دخول القانون المحدث للمحاكم الإدارية حيز التنفيذ لم يكن يجرؤ على تطبيقها ضد الإدارة إذ كان يكتفي بتسجيل الامتناع عن التنفيذ لتعتبره خرقا لقوانين التنظيم الأساسي والإجراءات القضائية التي باحترامها يحترم النظام العام ويعتبره أساسا للمطالبة بالإلغاء أو التعويض طبقا للقواعد العامة لكل منهما [7]
وعلى هدى ما تقدم تتضح معالم هذا البحث كما يلي : سوف نتناوله في قسمين : القسم الأول سوف نعالج فيه مفهوم الغرامة التهديدية خصائصها ومبررات تحديدها في مواجهة الإدارة الممتنعة عن تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها وما إذا كان يجوز تحديدها لمنطوق الحكم أم بعد تسجيل امتناع الإدارة عن التنفيذ ومبررات تحديدها بين الإدارة والمسؤول عن التنفيذ وبين أحكام الإلغاء وأحكام القضاء الشامل مع بيان الجهة المختصة لتحديدها والقواعد التي تحكم تصفيتها بين اعتبارها مستقلة ومنفصلة عن التعويض وبين إخضاعها في التصفية لأهمية الضرر ونوعه ومداه.
والقسم الثاني : نتحدث فيه عن إمكانية قابلية أموال الدولة للحجز لضمان تنفيذ الأحكام الإدارية ومفهوم الأموال العامة للدولة ومعيار التفرقة بين الأموال العامة والأموال الخاصة للدولة وموقف القضاء من الحجز والحجز لدى الغير في مواجهة الإدارة والمؤسسات والمرافق التابعة لها. مع الإستدلال بتطبيقات عملية في الموضوع نخلص في النهاية إلى القول بضرورة تدخل تشريعي لمقاومة ظاهرة امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام الإدارية الصادرة ضدها بتقرير المسؤولية المدنية والتأديبية والجنائية للموظف الذي يحول دون تنفيذ تلك الأحكام.