تثاءب "الهاشمي " في كسل وهو يرمق بنظرات شاردة "الكاريان" الرافل قبالة بيته  القصديري المتآكل الذي نالت منه صروف الزمن وتقلبات الأجواء فأضحى على قيد أنملة من الانهيار والركون أمام عتبات الزمن القاسي ...فرك أصابعه وجالت عيناه الأفق فتقدم بخطوات حثيثة   قاصدا حافة " الكاريان"   كعادته لينهل من نفحاته ، ويستجدي البركة من فيضه قبل  التوجه  صوب دكانه العتيق في سوق "السلك" ، فجأة ، لاح أمام ناظريه طيف وردي لفتاة اعتاد رؤيتها في ذات الوقت صبيحة كل يوم وهي ترمي النفايات في حنايا "الكاريان" فرك عينيه جيدا ليستبين الأمر، فلم تنجلي صورتها من أمامه فأدرك أنها حقيقة صرفة وليست هوس خيال ، فتاة في منتصف العشرينات  من عمرها ، كثة الشعر والحاجبين كلثومية الوجه   ممتلئة الشدقين ، سمراء اللون حافية القدمين ، تدك بخماص قدميها الأرض دكا فينقاد لها النقع ليتصاعد بروية نحو الأفق متكاثفا وكأنه يرقص طربا  لنسيم الوله الذي يلف بعبقه المكان ،   تردد قليلا محدقا فيها  وهي تنفث سحب الدخان من فمها المتفلج عنوة من آثار كدمات انهدت أجزاء من فكها الأمامي من وقعها، تردد قليلا قبل أن يصارحها بما يعتمل في فؤاده ..توقف لحظة يستجدي العون من بسالة جاثمة في أعماق وجدانه ، فأبت  أن تبارح مكانها من دهاليز أضلعه ،لتتركه خانعا مرتعد الأطراف في مواجة جبروتها الذي تعلن عنه ملامحها االقاسية ..قرر التراجع ..لكن سيل الأشواق الجارف الذي يعتمر قلبه ،رجه رجا ، فقاده أمامها ، ليمثل بين يديها كعصفور مقصوص الجناحين ، تمتم بصوته المتهدج قائلا :    - آنستي ..أود أن أقول لك ..أني .. ،  قاطعته بصوتها الأجش الذي تكسوه نبرات رجولية وبحة أقرب إلى بحة "شيخة" من " الشيخات" المخضرمات   : - ماذا تريد أيها الأخرق ؟..إياك أن تسول لك نفسك الخبيثة الاقتراب أكثر فأنا... ، قاطعها " الهاشمي" متلعثما محمر الخدين قائلا : - لا تسيئي فهمي آنستي فأنا ، أنا....  انتهرته بعنف وشياطين الجحيم تدب في أوصالها قائلة :  - تكلم أيها المعتوه وقل ماتريد قوله فليس لي وقت لكي   أضيعه معك..، أجابها متمتما : - أردت فقط ... نعم...فقط ..هو ذاك...أردت أن أطلب منك أن...ألا ترمي الأزبال مجددا في هذا " الكريان" ، فقد ضقت درعا  من أسراب الباعوض والذباب والصراصير التي تتوافد حشودا يوميا نحو ردهات منزلي ... انتفخت أوداجها وبرزت عروق في جبينها فقذفت ما ألْفَته في يديها والوجهة معلومة طبعا : جسد " الهاشمي" المسكين الذي انتفض في عنف قبل أن تتلاشى أنوار النهار وتظلم الدنيا أمام أعينه ويسقط ممددا على الأرض بلا حراك ، قبل أن تتوقف عجلة الأحداث هنيهة ليجد نفسه ماثلا أمام "قائد" المقاطعة القريبة شاكيا ظلم " خْديجة" منتحبا باكيا لهول ما أصابه من بطشها وصلف قلبها ، فيما بدت هي ، رقيقة  على غير عادتها والبشر يطفوا ليعلوا محياها وهي تعتذر له أمام " القائد" طالبة العفو والصفح ،فلم يجد بدا من العفو عنها ولم يملك  أمام اعتذارها له و أمام خفقات قلبه المختلج عشقا بهواها إلا أن يسامحها ، ترقرقت العبرات لتبلل خدودها وهي تعانقه مصرحة بما يعتملها من وجد مستشر بين أضلعها ، أطلت الدهشة من عينيه وهو يسمع كلماتها ، قبل أن تصارحه قائلة : - أحببتك مند أول ماالتقت مآقينا ، انتظرت بوحك لي ، لكن دون جدوى ، فكانت تمتماتك الأخيرة هي النقطة التي أفاضت كأس هيامي  فلم أجد كيف أعبر عنه سوى بأن أذقتك من كأس هوايا على طريقتي.. أجابها "الهاشمي" وهو يتحسس الألم الذي لم يبرح مكانه من أضلعه قائلا :  - وما أروعه من كأس انتشيت بتجرعه حبيبتي ، ياليتك جدت بصاعقة العشق تلك  مند أن رأيتك أول مرة ..ما أروع ضرب الحبيب... تضرج وجهها بحمرة الخجل   فصفعت قفاه وهو تهمس بخجل : - يالك من خبيث تجيد انتقاء كلمات الغرام ، ذكرتني بالمسلسل المكسيكي ، امرأة جافة   ... علا صوت قهقهاتهما المكان قبل أن يسدل الليل ستائره على قصة عشق أسطورية سيرتج لها تاريخ "دوار الكاريان" أيما ارتجاج...