

أعزوفة الشيطان و لعنة الخوصصة

على سرير الانهيار العصبي ، شكوك تنتابني كلما تلقيت عزاء عما آلت إليه أحوالي و ما ستؤول إليه في المستقبل . نظرات متهدلة أجس بها بؤرة عين المعزي ، لعلني أستخلص من بريقها شبح كل من الوامق المشفق ، أو الشامت الشنآن و الساخر الكاشح . إلحاح يحثني عن الفرار و الاستقرار زاهدا بين ثنايا فج عميق ، فأتجنب بذلك الشفقة و الشماتة و السخرية .. لكن جزء باكيا من فؤادي يحن إلى البقاء قرب الزوجة و الأبناء الأبرياء ، و آخر متفائلا يهفو إلى معجزة إلاهية تنتشلني من محنة البلاء .
أنتم تحبذون المضي قدما نحو الأمام ، فمعذرة إن عدت بكم سنوات إلى الوراء ، و تحديدا في عمر الثامنة و الثلاثين ، أي قبل أربع سنوات .. كنت حينها موظفا ناجحا و زوجا صالحا ، أنعم بحياتي و أرضى بقسمتي ، قانع النفس راضيا مرضيا ، أرفض رشاوي المقاولين حيث كنت مشرفا تقنيا عن الخدمات الممنوحة لهم من طرف إدارتنا . طلع من بين هؤلاء شاب مقاول عرف كيف يكسب ودي بسحر ابتسامته و بلسم ألفاظه ، طمعا في كسب تقنيات مهنية معقدة كان يفتقر إليها ، لأنني و بلا فخر ، أفوقه درجات بالخبرة و الموهبة التقنية . شيئا فشيئا توطدت العلاقة عبر الزيارات العائلية المتبادلة ، و وقتها برز من خلالها الفارق المادي الكبير بيني و بينه ، فأمسيت أعاني الشعور بالضعف متجنبا دعوته إلى منزلي ، و بالأخص خشية من استنقاص زوجته الراقية . على إثر الأحاسيس الجديدة العهد ، أطلق الشيطان العنان لأعزوفته ذات المقام الثائر ليدندن بقصيد اللوم في أذني متلاعبا بذيله : الدنيا براعة و ليست قناعة .. ألا تدري أنك أولى بالنعمة من صاحبك المقاول الذي يحصد الملايين من وراء مساعدتك له ؟ لو كنتَ مقاولا مثله لكنتَ الأجدر باقتناء المشاريع الممنوحة له ، لأنك الأقرب من الإدارة و الأمهر في المجال التقني .. ألا يكفيك أنك تختبأ برأسك كالنعامة بين جدران بيت حقير مأجور ، و صاحبك ينعم و يتمختر تحت ثريات القصور ؟ أتتخد من القناعة شعارا بينما الآخرون يكيلون الكيل مكيالا ؟ ستبقى أحوج الناس إلى الرحمة و الشفقة ما دمتَ غير مستغل لكفاءتك الدفينة ...
 على إيقاع السيمفونية الشيطانية الثائرة ، رقص الحظ و زغرد ، حيث عُلقَت على سبورة بيانات الإدارة مذكرة الإعلان عن المغادرة الطوعية ، تغري الموظفين بملايين السنتيمات مقابل الانسحاب من وظائفهم . اعتبرت اللحظة من أجمل لحظات العمر ، انفرجت لها الابتسامة الغائبة ملء الثغر ، و أمسى أخيرا بإمكاني أن أودع الروتين الإداري و قلة عطائه ، لأعانق عالم الأعمال و أنافس أصحابه . و أنا في مكتبي أجمع أغراضي الشخصية من أجل الانسحاب الأبدي ، دموع وداع صامتة تندفع من أعين زملائي ، حنين مفاجئ يلوث أحلامي ليؤنبني عن تسرعي و هجري لعملي و أصدقائي ، طموح شاذ يستهزئ من دمعتي و يحثني على مواصلة الدرب و بلوغ الهدف المنشود . هناك في قلب المدينة ، في شقة من شقق العمارات الراقية ، فتحت مكتب شركتي الجديدة . أقتنيت سيارة تليق برجال الأعمال . صرفت ما يزيد عن نصف حصتي حتى أحقق لمشروعي مكانته المميزة . لكن ، تجري الرياح بما لا تشتهييه السفن ، و لا يلبث النحس أن يقتفي أثر ذوي المحن .. مرت سنة بأكملها ، سنة طويلة جدا ، خلتها دهرا كاملا و أنا أتردد إلى الإدارة لمقابلة الموظف المسؤول عن المشاريع ، لعلني أحظى بمشروع كبقية الآخرين فأستأنف مسيرتي المهنية ، لكنه في كل مرة كانت إجابته تقرع مسامعي : عذرا و إن كنتَ بالأمس زميلي ، شركتك جديدة و غير مؤهلة لإنجاز المشاريع ، و حتى تتمكن من هذا ، لا بد لك من شهادة تثبت استلامك لمشروع ما . و أنا أظل صامتا حائرا ، أجول بنظراتي إلى بدانته الفظة ، يتظاهر بأنشغاله بأمر ما ، يكرر العبارة مرة أخرى بأسلوب مزيج من الإشفاق و الجد ، و أي جد ذاك إن لم أمنح مشروعا يمكنني من الشهادة المطلوبة . مرت الأيام و الحال على حاله ، يرفضون إمدادي مشروعا لغاية في نفس يعقوب ، تطاردني مصاريف تفوق المستوى المطلوب ، يدق ناقوس الخطر لأبيع السيارة من أجل تسديد فواتير الإيجار و الضرائب .. يتوارى الهدوء و السكينة ليحل محلهما التوتر و الشجن ، فأجدني بين المطرقة و السنداب أصارع الندم و العذاب .. بين ذكرى الأمس القنوع و فردوس حياتي ، و مرارة الحاضر المفلس الذي أضحى حرشفا بريا يخزني و يخز أسرتي . في خضم الاضطرابات و الندم على ما فات ، لا تلبث أن تعودني أعزوفة الشيطان بمقام يختلف عن سابقه فيدندن من جديد : ألم تتعض بقول من قال : الشعير و الراحة خير من القمح و الفضيحة ؟ أتضع النزاهة شعارا لشركتك في زمن انتظر فيه الطامعون حصتهم من حصة طمعك الشريف ؟ أنت تدفع الفاتورة غالية لأنك استخففت باللعب مع الكبار .. و مع الأيام يبقى ألم الندم يرافقني ، لا يدحرني بالتمام ، قد يخدلني من وقت لآخر ، لكنه يتجاهلني في بعض الأوقات ، حتى أتمكن من تجاوزه عن طريق السلاح القوي - الإيمان - الذي طالما فتك بالإحباط و الاستسلام و الخنوع ، ليترك للعقل فرصته في تحقيق التوازن ، و للقلم وقته لتدوين أحداث خبرة أليمة ، يضيفها إلى باقي الخبرات التي عشتها منذ نعومة أظافري .
قصة من الواقع لا صلة لها بسيرتي الذاتية هدية لكل من يفكر في الانسحاب من عمله عزاء لضحايا الخوصصة في كل البلاد تحيتي و احترامي عبدو |