أشرقت شمس الصباح و عمار جالس على كرسيه المتحرك المُطل على حديقة خضراء،
مليئة بالزهور الغناء و هو يراقب و يفكر في ماضيه الملئ بالذكريات ،
ماضيه الذي يمر أمامه كشريط سريع لا يستطيع التوقف فيه إلا و دمعته تسيل على خديّه.
عمار شابٌ في الأربعين من العمر، عاش عشرون عاماً من حياته في بلاد الغربة.
بعيداً عن الأهل و الأحباب لم يتزوج وفائاً لحبيبة لم تستطع أخرى إقتلاع مكانها من قلبه،
ظل حبيس نفسه ، يومه بين مطرقة العمل و سندان الحياة القاسية.
يعيش تحت دوامة روتين يومي، إن اراد كسره
يذهب للغداء في مطعم غير المعتاد ليشعر بشعور التجديد و يرى شئ جديد بعيداً عن روتينه الرتيب.
أخرج قداحته و هو يتمايل على كرسيه ببطء ،
و أشعل سيجارته التي يراها مؤانسه الوحيد في لحظات الشوق و هو بين شريط ذكرياته المؤلم على قلبه
و صورة الأحباب محشورة في جنبات عقله ..
تنهد بأنفاس عميقة و قال :" تباً للحياة، ركضت باحثاً عن سعادتي فسقط في هوة أحزاني،
كم أنا غبي تركت بيتي الذي كان يمكن أن يصبح قصراً رغم صغره ،
و يصبح مضيئاً رغم تلك الشمعة الوحيدة في الوسط ،
و أن اراه هادئاً رغم الجلّبة و الضوضاء التي تخرجها تلك المصانع اللعينة، كم أنا غبّي ."
قالها و هو يمتعض شفتاه بغضب و ينفث الدخان من أعماق أعماقه التي يملؤها الحزن الدفين.
ذادت دقات قلبه شيئاً فشيئاً .. و أرتطمت أحاسيس حزنه و بؤسه بهواجسه و إذا بصدره يتحرك
و كأنه يقاتل تلك الذكريات التي تلاحقه.
وضع يده فوق صدره و زاد الألم و إنقطعت أنفاسه شيئاً فشيئاً و سقطت تلك السيجارة من يده ، و وجهه يزداد إحمراراً
تحامل على نفسه و أتجه صوب الهاتف و طرق أرقام الإسعاف و نطق بكلمة واحدة :"ساعد..ؤؤ .وني"
و سقط على الأرض كمن يسقط جثة هامدة على فراشه.

سمع صوتاً يشبه صوت بوق السيارة لكنه يصدر صوتاً متقطعاً بين لحظة و أخرى
حاول فتح عيناه تدريجياً رغم الثقل الذي يشعر به بين جفونه
و عندما أستطاع فتحهما وجد وجه مبتسم المحيا أمام وجهه، بلباس أبيض و أحس بيدها تلامس يده .
قال لها :" من أنتِ"
إبتسمت الفتاة و قالت :" أنا الدكتورة كلارا .. حالتك كانت خطرة عندما وصلت الى هنا،
لكن الحمد لله الآن أنت في إستقرار تام و يلزمك بعض الراحة.
أسترح الآن و لنا حديث مطول بعد أن تسترد بعض من عافيتك "
نظر أليها و قال :" شكراً لك دكتورة كلارا .. و أريد أن أعلم ما ذاك الذي إنتابني في تلك اللحظة "
قالت له :" ليس الآن إسترح و لنا حديث " .. و ذهبت لتتركه بين تساؤلاته و ذكرياته.
تنهد مرة أخرى و أغمض عينيه محاولاً النوم و لم تتوارى عينيه في النزول لرغبته و نام في سبات عميق.

تحركت عينيه عندما شعر بأشعة الشمس الحارقة فوق عينيه .. فرفع يده و كأنه يحاول إزالة تلك الأشعة من عينيه
فإذا بصوت الدكتورة كلارا و هي تصيح :" هيا .. كفاك نوماً حان وقت الفطور"
فتح عينيه و قال لها :" صباح الخير
- صباح النور و السرور .. هل تشعر بتحسن
- نعم .. لكن أشعر بشئ ما داخل صدري
- لا تخف سيزول هذا الشعور تدريجياً
- بماذا أنا مصاب ؟
- لديك ورمٌ بسيط في صدرك .. و سنزيله بعملية جراحية
_ عملية !!!!
- لا تخف .. فهي مجرد عملية ستأخذ بضع دقائق فقط
- لكن ..
- ماذا؟
- ليس لدي المال الكافي
- هل لديك أي أقارب
- للأسف .. لا
- حسناً .. لا بأس سأرى ما يمكنني فعله .. هيا كُل فطورك و بعدها سنرى ما باليد من حيلة
و فجأة دخل عليهم دكتور جميل المظهر .. واثق الوجه .. و قال :" مرحباً كيف حال مريضنا "
فردت الدكتورة كلارا :" مرحباً دكتور أيمن "
فصرخ عمار بصوت المتفاجئ :" أيمن !!!!! هل أنت عربي يا دكتور "
بدت علامات الدهشة ترتسم على وجه الدكتور أيمن و قال :" نعم .. من أين انت و ما اسمك؟"
- أنا عمار من السودان
أتجه أيمن بلهفة الى عمار و مد يده و السعادة تغمره و قال :" و أنا ايضاً من السودان "
فبكى عمار و وقف ليعانق أيمن .. و سقط بين صدره كما يسقط الطفل في صدر أمه و أنهمرت الدموع من عينيه
ثم قالت الدكتورة كلارا :" هاقد أتاك الفرج يا عمار "
فرد أيمن بسرعة :" دكتورة كلارا .. إن كان لدى عمار أي مشاكل مالية أنا في الخدمة ..
فمن لم يعاون أخاه في غربته ، لا فائدة منه "
نظر عمار الى السماء و الدموع مغرورقة بين عينيه
و قال :" الحمد لله .. الذي أرسل لي أخاً من حيث لا أعلم ليشعرني بالحياة " .
*** أنتهت ***
بقلميـــ**monty**ــ