بسم الله الرحمن الرحـــــــيم

زارني الصديق الذي كان بالأمس رفيق تجربتي الإبداعية ، مَـثــل أمامي على حين فجأة
و أخد له مكانا في مكتبتي لينظر إلي صامتا شاحب الوجه ، أقلقني وجوده بقربي في تلك
اللحظة المتأخرة من الليل ، لأني كنت في حاجة إلى عزلتي حتى أضع لقصتي نهايــــــة
تناسبها و تليق بها . تأملَّ كل منا صاحبه في صمت رهيب ، أجل ، إنه رفيق أمسي ، هو
بعينه ، وجهه البريء ، جسمه النحيل ، بذلته البنية ، شعره الأسود الذي لا تشوبه شائبة
و لو أن الدهر قد أكل عليه و شرب ، نظر إلي بنظرته الحزينة و كأنه يتساءل إن
كنتُ أتجاهله أو غير راغب في لقياه ، فكسر جدار الصمت ليخاطبني فجــــــــــــــــأة :
أنسيتَ أمسنا القريب ؟ ابتسمتُ في وجهه حتى لا أثير قلقه أكثر فقلت : كيف لي أن أنساك
و أنت رفيقي و أستاذي منذ نعومة أظافري ، لستُ جحودا لأنكر فضلك علي ، كنتَ بالنسبة
لي أبدع المبدعين و عملاق المفكرين ، و لطالما فضلتُ نصوصك على نصوص نجيب محفوظ
و غيره من الكبار ، لكن مع الأسف الشديد إن كانت صداقتنا قد انتهت بالفشل الذريع ، فنصوصك
قد تحولت إلى قضبان سجن مظلم منعتني من التحليق في سماء العطاء ، و التألق بين نجوم
الفضاء ، و لكي أنجو من عذاب غياهب السجون ، باعت أختي كل مسوداتك و نصوصك
لبائع الحمص المتجول . قال مندهشاً : بائع الحمص ؟ أجبته ضاحكاً : أجل .. ليجعل منها
أداة لتلفيف سلعته ، لقد ذكرتْ لي أختي أن ثمنها الضئيل خير من مضمونها الهزيل ، فهي
تعتقد من أنها نصوصا ساذجة وسخيفة لا صلة لها بواقع الحياة والناس ، ولا تحترم قوانين
القلم و القرطاس .. أزعجني فعلها في بداية الأمر ، لكن روح التحدي و الانتقام من سخرية
أختي جعلتني أفكر في الرحيل من موطني إلى موطن القلعة ... قاطعني مبتسما بنبرة المستهزئ
الرحيل ..؟ القلعة ..؟ أتدري أي أرض تطلبها ؟ أجبته بلهجة الواثق من نفسه : أعرف قصدك
أيها الصديق ، بل أدرك كل الإدراك من أنها غابة ستـتـنافس على اعتلاء عرشها الأســــــود
و الفهود على اختلاف انتماءاتهم ، منهم الدراويش و السفراء ، والنقاد و الشعراء ، كما أعلم
أن تتويج صرار عازفٍ شبه مستحيل في تلك الأوطان ، ما دام مالكوا القرار قد وضعوا ترشيحاتهم
في قمة اللائحة الانتخابية ، لكن هذا لا يمنعني من التحدي و النضال ، قد أخسر السيادة ،
و أنال من بعدها المواطنة الصالحة التي قد تجعل مني يوما ما سيد القوم .
قال باستسلام : إذن قررتَ الرحيل ! قلت : أجل .. هدفي هو اختراق حصون القلعة ، سئمتُ
من وجودي في موطن قلم الرصاص ، و أظن أختي كانت على حق ، فلو أبدعتَ يا صديقي
ما يعجز عن إبداعه الأدباء و الحكماء ، لكان مصيرك في نهاية المطاف أداةً إسمها الممحاة
و رواداً يكتفون بسخ ما سبق من التعقيبات ، و نقادا يتهمونك بتكرار المحاولات ، فهم يدركون
و يتجاهلون في نفس الوقت قدرك و مكانتك ، بل تناسوا من أنك كنتَ يوماً صديقاً حميما
لأفلاطون و ابن خلدون ، و من أنك خبير في الاستنساخ حيث كثيراً ما جعلتَ من الحمل
أســـــــــداً و من العـــــامة سيــــِّــــــــداً .