@زمان بيكينباورمرحبا بالقيصر بكنباور و مشكور على مرورك هنا؛
ـــــــــــــ
سأحاول الاجابة على بعض النقاط البسيطة قبل المرور لتحليل بعض الافكار و استدراك بعض الامور،
بخصوص شلايشر، لست ادافع عن القولة و هي حتما تحتاج لبعض التحيين، لكن يجب النظر الى الفكرة من زاوية المتحقق على ارض الواقع
و ليس بالنظر على حكم القيمة الاخلاقي،
اللغات الهندو اوروبية انتصرت على البقية “حضاريا” و بغض النظر عن طريقة انتصارها و ادوات تحقيق الهمنية،
فالمهم ههنا هو النتيجة، و لا تنسى اننا نتكلم في معرض انزال المفاهيم التطورية على حقل اللسانيات،
انه حديث عن القوة حيث البقاء للاصلح بدون اعتيار الطريقة، هنا اتفق مع شلايشر و ارى انه باستثناء الجذر الصيني الذي حقق طفرة في القرن الماضي حضاريا،
فالبقية ملازم للهامش، بما فيها اللغة العربية، هذه هي الحقيقة على الارض اليوم، لكن ايام الله دول.
بخصوص الاستعارات، فالمقصود ليس مقصور على الجانب البياني او البلاغي و انما من حيث هي اداة توليدية للمعرفة داخل نفس الاطار الحضاري،
مثلا ففكرة التطور ليست سوى انعكاس شاحب لنظرية الاسكان لدى الراهب مالتوس، و الذي بدوره بنى على ما توصل له الامبريقيين مثل هيوم، و مزجه مع الفكر الطبيعي الفرنسي، هذا الاخير اذا ما دققنا كثيرا في استعاراته اللغوية سنجد انه ايضا مغمس بالوثينات الاوروبية و الاغريقية القديمة.. ابدال الاله بمركزية الانسان، و هو امر من السهل ملاحظته خلال فترة النهضة الاوروبية: رسومات دافينشي و مايكل انجلو و مجسمات النحاتين، حيث تظهر مركزية الجسم الانساني ..
الفكرة كما قلت لعبد الله فوق، اننا بحاجة الى امرين اثنين:
اولا الانتباه الى الاستعارات المستوردة و محاولة فهمها في بيئتها الخاصة، حتى تلك التي تاتي في سياق علمي محض،
و اريد ان احيل ههنا الى مثال حتى لا يصبح كلامي مجرد عناوين فارغة من اي سياق.
عهدنا من مثقفي اليسار “العربي” رمي مخالفيهم بــ “الظلامية”، ظنا منهم انهم بمجرد ترجمة لفظتي “تنوير” و “نهضة” من اللغة الفرنسية الى العربية، انهم قد تنوروا،
و تحضروا، و اصبحوا بمثابة الرساليين، الذين سيقومون باخراج جمهرة المسلمين من دياجير ظلمات تخلفهم الى النور و الحضارة المطلقة.
و كأن اللغة وعاء فارغ؟ بمجرد ان تضع فيه حجرا او حصا ستيحول بقدرة قادر الى زبرجد يضاف الى رصيد اللغة من الؤلؤ.
في الواقع لفظة “انوار” رغم عربتها لا ترد هكذا في القران الكريم ابدا بصيغة الجمع، و القران شاهد مرجعي وحيد و اساسي للغة العربية،
في حين ان الظلمة ترد بالجمع و المفرد في القران: “الله نور السماوات و الارض” (النور، الاية 35) و “ الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات الى النور و الذين كفروا اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات” (البقرة، الاية 257).
لماذا افرد القران النور و كثرت الظلمات باطراد؟ نحن هنا نتعامل مع مرجعية اختارت مفرداتها بدقة، ضمن نسق عقائدي مطلق،
فمن خلال هذه المرجعية و نحن نصدر منها و اليها، تعتبر “الالحادية” بغض النظر عن خلفيتها الاجتماعية او البيئية،" ظلامية"، و كل ملحد فهو ظلامي توقيفا بالنص.
كلمة انوار من خلال المرجعية الاوروبية، لفظة مشحونة بالاديولوجيا و متخثرة بالصراع الاجتماعي و الديني الذي لا نظير له في ذاكرة المسلمين ضمن تجربتهم التاريخية و العقائدية،
فلا يمكن من خلال هذه الحيثية ترجمة لفظة “ملغومة” و “ملغزة” مثل الانوار الى اللغة العربية ترجمة حيادية، لن يقوم بذلك سوى امي حضاري جاهل ببيئة المنشأ،
و نسقها المعرفي، و بيئة المجتمع الهدف، و نسقه المخالف.
و الشواهد كثيرة في التاريخ الاسلامي لمثل هذا التلفيق الفيروسي، و قد كلفنا الكثير كمسلمين/ في ديننا و حضارتنا و فكرنا.
و اذا اردت ان تفهم حجم السمومية و الفيروسية التي يمكن ان تنقلها مجرد “استعارة” لغوية بسيطة تمت ترجمتها بدون فهم للسياق و البيئة الحاضنة الاولى، دعني استعرض الطريقة التي تعاملت بها البعثات اليابانية في عصر الميجي (1868 - 1912):
- لم تستهوي اليابان العلوم الاجتماعية الغربية، لانهم كانوا يفهمون انها استعارات وثنية للدين و العقيد كما كان لدى الاوروبيين القدامى (بعكس العرب ممن افرطوا في استهلاك المسموم و الموغل في الوثنيات الغربية و ان تم تغليفه باسماء جديد: السوسيولوجيا، البسيكولوجيا، الهيرومنطيقا، الوجودية، البنيوية ..)
- اكتفى اليابانيون بالعلوم الحقة، و نقلوا فيها عن الاوروبيين و لم يخجلوا من ذلك، رغم اعتزازهم بالانا الحضاري الخاص بهم، هذا الرحالة و المربي يوكيشي فوكوزوا Yukishi Fukuzowaa لم يكن يتوانى عن حث المجتمع الياباني عن الاخذ من العلوم الغربية و لكن بحذر، و كان قد اسس مدرسة على اثر ذلك مدرسة كيو غيجوكو Keio Gijuko عام 1858.
- خلال ذلك تمت ترجمة عدد من النظريات و الكتب و المقالات العلمية، المترجم تاداوو شيزوكي Tadao Shizuki وقت ترجمته لكتب الفلك الاوروبية، ادرك الحمولة الاديولوجية للفظة “الثورة الكوبرنيكية” و التي متاكد ان كل من يقرا هذه السطور قد تعلمها على هذا النحو لاول مرة في المدرسة. بالنسبة لتاداوو فهو يفهم ان لفظة مثل هذه مليئة بالاستعارات الملغومةة و تتحمل معاني اكبر من مجرد تسمية لظاهرة علمية، تاداوو ادرك ان عبارة “ثورة” تملك دلالة عقائدية و تاريخية، فكانت ترجمته مغايرة : “نظرية حركة الارض” و هي تسمية حافظت على المعنى بدون فتح الباب للرمزيات الاوروبية الخاصة، ركز تاداوو على نسبية حركة الارض بالنسبة للشمس، وهو تفسير سليم سواء التفت الارض حول الشمس او العكس، في النهاية الاوروبي ركز على الجوهر في حين الياباني اهتم بالعلاقة..الاوربي اعتبر التحول من مركزية الارض الى مركزية الشمس “ثورة” في حين الياباني ــ و هو ابن الشمس ــ فهم مدلول و رمزية التسمية و انكب على الظاهرة علميا و رافضا للاديولوجيا.
- نفس الامر نجده في ميدان اخر و هو الكيمياء، فهذا اوداغا يوان Odaga Yoan يأتي الى ما اعتبره الفرنسي لافوازييه Antoine Lavoisier اساسيا و هو “جوهر” او “ذرية” المادة (لاحظ الحمولة الوثنية لدى لافوازييه الذي نقل التعبير مباشرة عن ارسطو) و يترجمه من خلال مرجعيته الوذية - الكونوفوشية من منظور “القوة” و “الالفة” .. اي “اليانغ” و الينغ".
و هكذا خط اليابانيون ضمن اطارهم المرجعي و ظرفيتهم التاريخية، طريقة للاستفادة من استعارات الاخرين دون الوقوع في وحل حمولتها العقائدية،
فمقابل خصوصية اوروبية امريكية، تم تطوير خصوصية يابانية دون الذوبان في مصطلح الغير و استعاراته، رغم الاشتراك في مجال تداولي واحد.
ــــــــــ
لقد كنت جد متفاءل حينما تصورت انني ساكتب كل شيء في رد واحد، على اي الجزء الاخر من الفكر ساتركه للغد ان شاء الله،