هذه الإجراءات، التي تستهدف في الأصل تجفيف منابع التمويل للإرهاب، ألقت بظلالها على مدنيين أبرياء، ما أثار تساؤلات حول مدى توازن هذه الإجراءات بين تحقيق الأمن وحماية حقوق الأفراد.
والقاسم المشترك بين هؤلاء المشتكين هو تعاملاتهم التجارية مع مكتب الصرافة "القاهرة"، الذي سبق أن وردت تقارير عن مساعدته لحركة حماس في تحويل الأموال من إيران إلى غزة.
وبينما تُعد مثل هذه الإجراءات جزءًا من الجهود الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب، فإنها أثرت سلبًا على أفراد لم يكونوا على علم بصلات المكتب المزعومة مع جماعات مسلحة.
والهدف المعلن لهذه الإجراءات هو قطع الإمدادات المالية عن حركة حماس، التي تُوصف من قبل بعض الجهات الدولية بأنها "حركة إرهابية".
بيدَ أن هذه الخطوات تتجاهل حقيقة أن الشعب الفلسطيني، الذي يعاني من ويلات الحرب ويحتاج إلى أبسط مقومات العيش، يعتمد على هذه الأموال لتأمين الغذاء والدواء والضروريات الأساسية؛ فبدلًا من أن تكون هذه الإجراءات أداة لإنهاء الحرب، أصبحت وسيلة لمعاقبة الشعب بأكمله، وليس حماس فقط.
وتأتي خطوة تجميد محافظ العملات المشفرة كجزء من إجراءات أوسع لتشديد الحصار الرقمي والمالي على الفلسطينيين؛ فمنصة "بينانس"، التي تعتبر واحدة من أكبر منصات تداول العملات المشفرة عالميًّا، قامت بتجميد حسابات المستخدمين الفلسطينيين بناءً على طلب إسرائيلي.
هذا الإجراء لم يقتصر على تجميد الأموال فحسب، بل امتد ليشمل مصادرة الأصول الرقمية دون إشعار مسبق أو تفسير واضح، ما خلق حالة من عدم اليقين المالي بين المستخدمين الفلسطينيين.
وفي وقت يعاني فيه أهالي غزة من تدهور اقتصادي وحصار خانق، تُعد هذه الخطوة ضربة قاسية لقدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية؛ ففقدان الأموال الرقمية يعني حرمانهم من وسيلة قد تكون الوحيدة المتاحة لشراء الغذاء أو الأدوية، أو حتى تأمين مأوى آمن.
ومع دخول شهر رمضان الكريم، تزداد الحاجة إلى هذه الأموال لتوفير وجبات الإفطار والسحور، خاصة في ظل غياب المساعدات الإنسانية الكافية.
وتُظهر هذه الإجراءات شكلًا جديدًا من أشكال التضييق الإسرائيلي على الفلسطينيين، حيث يتم استخدام الذرائع الأمنية لتبرير تجميد أموال المدنيين.
فبزعم منع تمويل عمليات مشابهة لهجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، تقوم إسرائيل بإقناع المنصات المالية العالمية بتجميد أموال الفلسطينيين، دون تمييز بين المدنيين والجهات المستهدفة.
وهذا الاستهداف غير العادل يتجاهل الرواية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني في الوصول إلى أمواله الخاصة.
حماية المدنيين الفلسطينيين وحقوقهم الأساسية يجب أن تكون أولوية قصوى، حتى في ظل الجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن هذه الإجراءات لا تُطبق بشكل عادل أو شامل؛ فبدلًا من أن تكون عالمية، يتم تطبيقها بشكل انتقائي على الفلسطينيين فقط، ما يُظهر تحيزًا واضحًا تجاه الرواية الإسرائيلية.
وهذا يطرح تساؤلات حول مدى عدالة هذه المنصات المالية العالمية، التي تختار أن تكون طرفًا في الصراع بدلًا من أن تلتزم بحيادها.
ولم تكن خطوة تجميد العملات المشفرة سوى حلقة في سلسلة من الإجراءات التي تستهدف البنية المالية للفلسطينيين؛ فمن مصادرة أموال المقاصة إلى تدمير المؤسسات المصرفية في غزة، أصبح الحصول على الأموال مهمة شبه مستحيلة.
وفي ظل العيش في الخلاء وتحت الخيام، ومع غياب المساعدات الإنسانية، يجد الأهالي أنفسهم في مواجهة حصار اقتصادي جديد يفتك ببقائهم.
ويبقى السؤال الأهم: من ينقذ أهالي غزة؟ فالإجراءات التعسفية التي تتخذها المنصات المالية العالمية، بدعم من الرواية الإسرائيلية، تُظهر تجاهلًا صارخًا لحقوق الإنسان الأساسية.
والواجب على المجتمع الدولي والمؤسسات الإنسانية هو التحرك العاجل لوقف هذا الحصار الرقمي والمالي، وضمان وصول المساعدات إلى من يحتاجها.
فالشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت وطأة الحرب والحصار، يستحق أن يعيش بكرامة، وأن يحصل على أمواله التي تُعد شريان الحياة له في هذه الأوقات الصعبة.
فاستمرار هذه الإجراءات غير العادلة لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة الإنسانية، وزيادة معاناة الأبرياء الذين يدفعون ثمن صراعات ليست من صنعهم.
وختامًا، فإن تجفيف منابع التمويل للأنشطة الإرهابية هو أمر ضروري ومهم، ولكن يجب أن يتم ذلك بطريقة لا تضر بالمدنيين الأبرياء، كما يجب أن تكون هناك آليات واضحة للتحقق من مصادر الأموال، وأن يتم استثناء التحويلات المستخدمة للأغراض الإنسانية من أي إجراءات تقييدية.
حماية المدنيين الفلسطينيين وحقوقهم الأساسية يجب أن تكون أولوية قصوى، حتى في ظل الجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب.