استيقظ بصعوبة كعادته كل صباح، كان منزعجا من صوت المنبه اللعين، أخرج جسده الثقيل من السرير وفرك عينيه ثم مد ذراعيه وتثاءب بكسل، جرجر نفسه ووقف أمام مرآة المغسل ، تأمل وجهه وعيناه المنتفختين، فتح الصنبور ووضع رأسه تحت الماء البارد
ثم أعتدل واقفا مشعث الشعر والذقن، بعد لحظات من التفكير قرر أخيرا أن يحلق ذقنه ويمشط شعره للخلف كعادته .
كرر حركاته الصباحية المعتادة في إعداد فنجان قهوة بالحليب المحلى وارتداء إحدى بذله الأنيقة وأحذيته اللامعة ...وأخيرا حمل مفاتيح سيارته وخرج وهو يلعن عقارب الساعة المتسارعة وعاداته السيئة بالسهر وقلة النوم.
مر اليوم بطيئا في العمل، أوراق ومعاملات وإمضاءات وحوارات لاتنتهي، عاد أخيرا لبيته حوالي الرابعة عصرا، فتح الثلاجة والتهم بعض الفواكه دون عناء غسلها، ثم أعد عجة مع اللحم المفروم وكأس حليب، كان هذا طعامه غالبا فهو يكره أكل المطاعم الذي يصيبه بعسر الهضم، ولايجيد الطبخ، بل ولايحبذ طبخا غير طبخ أمه ...تطلع للصور التي تزين مكتبه، أمه وأبوه وأخوه الأصغر، كلهم يبتسمون له.
فتح كتابا قبع أزيد من شهر في أحد أركان البيت، حاول قراءة بعض السطور دون جدوى، تساءل عن نهمه السابق للكتب وحبه للمعرفة والعلوم ...أين ذهب نشاطه وعقله المتقد ؟ رمى الكتاب بعيدا وفتح التلفاز والحاسوب في آن معا، بحث عن آخر الأخبار...ورفع صوت التلفاز كي يستمع ويبحث في الشبكة العنكبوتية عن كل شيء ولاشيء، كالعادة حملت آخر الأنباء مقتل العديدين في مكان وفيضانات وكوارث في مكان آخر، وامتلأت شاشة الحاسوب بالصفحات والصور ...تبلد حسه من كثرة مشاهد الدماء وسماع نفس المعلومات المتشابهة المتكررة، حتى أصدقاء النت زهد في محادثتهم ولم يعد يفتح بريده إلا نادرا.
مضت ساعتان قبل أن يقوم من كرسيه ويتجه نحو آلة القهوة مجددا، لطالما حدثته نفسه بتجربة السجائر علها تمنحه نفس انتشائه بفنجان القهوة الأسود المر، غير أن خوفه من مضار التدخين كان أكبر من المحاولة، وصلته رسالة لحظية على هاتفه النقال، ابتسم ساخرا دون أن يحاول قراءتها، كان متأكدا أنها إعلان مزعج من شركة الإتصالات، لم يعد أحد يعبأ للسؤال عنه، كما تجاهل الكثيرين هو أيضا.
قفز رقمها فجأة لمخيلته، لم يستطع نسيانه رغم مرور سنين على آخر اتصال بينهما، سمع من أمه أنها أنجبت طفلا قبل بضعة شهور، يبدو أنها تحب زوجها كي تنجب منه في أول سنة من الزواج، لم يستطع منع نفسه من السؤال عن إسم الطفل، شعور غبي جعله يظن للحظات أنها قد تجعل له نفس إسمه، هو لايلومها فقد انتظرته ثلاث سنوات ثم تزوجت أول من طرق بابها بعده.
تبا ...لم لايستطيع نزع صورتها من مخيلته ؟ لم ولن يكون قادرا على تكوين عائلة، رغم تأكيد طبيبه عكس ذلك.
اتجه بتثاقل نحو الحمام ثم اقترب من المرآة مجددا، تطلع لشعره البني الناعم وعينيه الخضراوين، ابتسم لنفسه بحزن وأسقط عكازتيه محاولا الوقوف رغم آلام ساقيه، ترنح قليلا قبل أن يسقط ويصرخ ...امتدت يده لطرف المغسل لتلتقي بموس الحلاقة اللامع !
للحظات تراءت له الموسى وهي تقطع شرايين يده، للحظات رأى نفسه تغادره وتحلق عاليا ...للحظات شعر بنشوة الحرية والآنعتاق
وفجأة تعالى صوت المؤذن معلنا صلاة المغرب، انفجر باكيا منتحبا... ثم زحف نحو عكازتيه واعتدل قائما ليغمر وجهه بالماء البارد ويتوضأ كما لم يفعل منذ زمن بعيد...
سلملم للجميع