وها هي ذي اليوم متأهبة في مكتب المديرة تنتظر أن يحضروا عمر إليها، كانت ستضمه إلى صدرها لأول مرة بدل النظر إليه عن بعد. إحساس لطالما تخيلته ستستطعمه اليوم أخيرا.
بعد لحظات دخلت المربية بلا استئذان إلى المكتب وهي تصيح:
- عمر يا آنسة ! عمر !!
ردت المديرة بفزع وهي تهرول خارجة ترافق مناديتها لغرفة الرضع '' ماذا حدث؟ ''، تاركة امينة في ذهول لا تقوى قدماها على حملها، ارتمت على الكرسي ترتجف وتردد:
- سلم يا رب، سلم يا رب.
وما هي الا دقائق معدودة حتى عادت المديرة تجري، وتناولت هاتفها لتطلب سيارة الإسعاف. حاولت أمينة تمالك نفسها وقالت بوهن ما إن أنهت المديرة اتصالها :
- ما به ابني؟
ردت عليها بحزم:
- أخبرتك أن ليس من السهل تبني طفل مريض. لقد ازدادت حاله سوءا، وعلينا أخذه للمشفى حالا.
اخذت بعض الأوراق وأتمت وهي تمدها لها:
- الأوراق مكتملة وهو الآن في أمانتك. ما إن تأتي سيارة الاسعاف حتى ترافقيه للمشفى.
تناولتها أمينة وهي لاتزال لا تدرك ماذا يحدث. أحست المديرة بشجنها فاقتربت منها ووضعت يدها على كتفها وقالت بهدوء:
- تمالكي نفسك، هذه النوبات تأتيه بين الفينة والأخرى، لكن حاله في هذه اللحظة أكثر سوءا. توقعي الأسوء ! واصبري واحتسبي، يكفيك أجرا عظيما عدم تركك له وحده دون أم تبكي على فراقه.
انتفضت أمينة من مكانها وصرخت باكية:
- لن يحدث له شيء ! اعلم هذا لن يحدث له شيء !
ردت المديرة بنبرة يائسة:
- خير إن شاء الله.
حضرت سيارة الإسعاف، وقاموا بأخذ عمر نحو المشفى ترافقه أمينة، التي أجابت بكل ثقة عندما سألها الطبيب عن هويتها وهي تهم بالصعود للسيارة:
- أنا أمه.
كانت طوال الطريق تنظر إليه، صار لونه أزرق و كان يتنفس بصعوبة، أدركت قول المديرة، لكنها نفضت ذاك الاحتمال ورددت في نفسها بأمل '' سيشفى، سيشفى'' بدأت تدعو والعبرات لا تفارق خديها.
حين وصلوا أخدوه نحو غرفة الانعاش، فاتصلت بزوجها تدعوه للقدوم.
حضر أحمد على عجل، وما إن لمحها حتى صاح مهرولا نحوها:
- مابه عمر؟ ماذا حدث؟
في تلك اللحظة، خرج الطبيب متوجها نحوهما وقال مخاطبا أمينة:
- أنت أم عمر؟
أشارت بالايجاب لا تقوى على الكلام، ودقات قلبها تكاد تتوقف من هول ما سيصرح به.
قال الطبيب:
- الحالة حقا حرجة، ويجب إجراء تدخل جراحي سريع، ان كان الأمر ليس بالعسير ماديا بالنسبة لكما فسننزله لغرفة العمليات حالا.
أجاب أحمد بسرعة:
- قم باللازم يا حضرة الطبيب، هو في أمانتك الآن.
أشار الطبيب بأن سيفعل، ثم عاد من حيث أتى. فتوجهت أمينة لزوجها بالسؤال:
- لكن.. النقود.. ؟
قاطعها أحمد بثقة:
-ربك مدبر حكيم، سأغادر الآن. وافني بالتفاصيل، اتفقنا ؟
غادر أحمد صوب المنزل مباشرة، توجه نحو مكتبه وأخرج صكا من خزنته وقصد البنك مسرعا قبل انتهاء الدوام. سحب مبلغا من المال وعاد للمشفى.
وهو جالس قربها ينتظر قرب غرفة العمليات، لمح وجه أمينة الذي صار شاحبا تغمره العبرات، فقرر التنفيس عنها فقال:
- أتذكرين قولي لك عن لحظة انتظار الولادة وتذوق طعمها؟
أومات برأسها إيجابا فأكمل:
- هذه هي اللحظة يا أمينة. إن شاء الله سيخرج سالما معافا ونفرح بولادته معا.
ابتسمت أملا، فمسح الدموع على وجنتيها وردد مازحا:
- دول دموع الفرح يا نينة.
ابتسمت بوهن ثم أسدلت رأسها على كتفه وقالت تخفي عبرات أسخن من سابقاتها:
- لم أحمله في حضني ولو مرة يا أحمد.
أحس بحسرتها فرفع رأسها وقال بجدية:
- ستحملينه، تفاءلي، ألم تقولي لي أن الله قد سخرك له ؟ إن شاء الله قد كتب له عمر مديد إذ سخرنا له.
اقتنعت بقوله، وتمنته أن يكون حقيقة. ثم انتبهت لأمر المال وسألته:
- كيف سنحل أمر النقود يا أحمد؟
ابتسم وقال بفخر:
- حل أمرها لا تقلقي.
نظرت له باستفهام، فقرر مصارحتها بالأمر فقال:
- قبل يومين بعت الأرض التي ورثتها عن أمي. تعلمين كان ابن عمي يريد شراءها بشدة، و كانت نقوده لها جاهزة.
ردت عليه بأسى:
- و أعلم أيضا أنك قد رفضت عرضه مرارا لأنك تريد تسخيرها لبناء بيت لنا نقضي فيه أيامنا في الريف بعد تقاعدك بعيدا عن زحمة المدينة وصخبها.
ابتسم وقال:
- كان هذا قبل أن نرزق بطفل، أما الآن فسنقضي أيام التقاعد معه في المدينة التي سيتابع دراسته الجامعية فيها.
تلالأت عيناها بهجة لمجرد تخيل الأمر، وقالت مقبلة يده:
- حفظك الله لنا يا زوجي العزيز.
فقبل جبينها وقال:
-وحفظك لنا يا زوجتي العزيزة.
وضعت رأسها على كتفه، وألقت الهم وراء ظهرها وصار لسانها يدعو خيرا لهم جميعا.