~الرحلة رقم 425 ... فل يتوجه جميع الركاب الى الطائرة ..ستنطلق الرحلة بعد قليل ~
*
*
كان هذا النداء هو الذي كسر حاجز الصمت و انتشل "أحمد" بخفة من شروده الطويل, الذي بات إحدى عاداته المزعجة منذ ترك بلده الأم "سوريا" إثر الحرب مع طفلتيه و زوجته الحامل في شهرها السابع ...
نهض عن كرسيه بسرعة ... جمع حقائب الجميع و توجه نحو الطائرة بصحبة عائلته الصغيرة و قد خزّنت عظامهم ما يكفي من برودة الطقس في مطار " اتاتاتورك" الذي كان على وشك تعطيل الرحلات الجوية بسبب الانخفاض الهائل في درجات الحرارة و تكدس الغيوم في السماء كما هو الحال في هذا الوقت من السنة في تركيا. .
*
*
في الطائرة ..
كلّ المسافرين نيام على مقاعدهم الا أحمد المستغرق في شروده المعتاد .. يلقي بين الحين و الآخر نظرة عميقة على طفلتيه ..نظرة ملؤها الحزن و الخوف و الحنان و ألون عديدة من مشاعر الابوّة المتحجرجة .. بقربه تغفو ابنته الكبرى حبيبة قلبه التي لم تتجاوز الخمس سنوات ,إبتسم بألم شديد و هو يزيح خصلات شعرها ويجمعها برفق خلف أذنها محاذراً ايقاظها ,ثم انحنى ببطئ حتى داعب ثغره بياض جبينها فقبّلها مغمضا عينيه.. قائلا في نفسه : "أدعو الله ان يكون لك نصيب من اسمك يا سعيدة " ...
نظر أحمد الى ساعته ..لقد مضى على إقلاع الطائرة أكثر من خمس ساعات ..
"الوقت هنا يمر ببطئ شديد او يكاد لا يمر "
يقول في نفسه موقناً انه في حال هبوط طائرة لن تعود مسألة وقت, بل مسألة حياة ... حياة إمّا تمر أو تبقى عالقة ..
الليل قاتم السواد .. شديد الظلمة .. كلّ شيئ كئيب , بارد وشاحب .. السماء المكفهرة بالغيوم تدعو للإكتئاب .. نظر أحمد من شباك الطائرة الى الاسفل .. تمتد أمام عينه صفحة المحيط لا نهاية لها .. المحيط الذي يفصل بين بلاد الموت و بلاد العيش المترف .. المحيط الذي يفصل برك الدماء عن برك المال و الكحول ..لم يكن لشيئ ان يخيفه مثل هذا المحيط الذي ابتلع آلاف الارواح التي ترصّدها الموت مقسماً أن لا يعود دونها.. فطالما شكر الله أنه ادخّر من المال ما يكفيه ليسافر إلى بلاد اوروبا بطريقة شرعية , كأي انسان ,كأي سائح ,كأي مهاجر أرهقته الحياة في بلده , و من غير ان يضطر لعبور البحر مع عائلته حيث يمكن لكل نَفَس ان يكون الاخير ..!
*
*
" نرجو من الجميع تثبيت أحزمتهم
فالطائرة علئ وشك الهبوط .. "
*
*
كان هذا التنبيه هو بداية العد العكسي لتدشين حياة أحمد الجديدة في أرض جديدة ألا و هي المآنيآ ..
*
*
لم تكن نظرات موظفي المطار مريحة و هم يرون رجلاً طويلاً بلحيةٍ سوداء و عباءةٍ بيضاء فضفاضة يقترب من شباك الاوراق الثبوتية ,
و ربما ليست نظراتهم وحدهم ,, بل نظرات الجميع كانت تتطاير شرراً لرؤيته يتجوّل في المطار مع زوجةٍ محجبةٍ تدفع بطنها أمامها و طفلتين صغيرتين ..
بعد تقديم الأوراق الرسمية و الإنزلاق من بين نظرات الناس الحادة تنهدّ أحمد تنهيدة طويلة و هو يترجل في السيارة,, ثم استقام خلف الموقود متجهاً نحو منزله الجديد القريب من المطار ,,
نحو مستقبله البعيد الغارق في غشاء المجهول ..
*
*
لم يبعد منزل احمد عن المطار اكثر من نصف ساعة ..
كان منزلًا بسيطاً مقرانةً بالبيوت المحيطةِ به و أجمل ما فيه _بالنسبة لـ أحمد _ أنّ له سقفاً صامداً لا تهدّدُهُ قذائفُ الطائرات العشوائية .. فلا يهدد بدوره رؤوس ابنتينه بالتهشم كلّ ليلة ...
بعد دخولهم المنزل و توضيب اغراضهم في اماكنها توجه كلٌّ الى سريره ليلقي تعب يوم كاملٍ من السفر و الجهد المضني ,, لم يكن رأس أحمد قد دفّأ المخدّة بعد,, حتى سمع طرقاً مزعجاً على الباب ..طرقا بعثر إتّزان الهدوء في المكان ,,نهض مسرعاً من سريره بعد ان ازاح الغطاء عنه, و توجه نحو الباب بثقةٍ و خوف كمن ينتظر زائراً غير مرحب به ,, أدار اقفال الباب الثلاث .. ثم فتح الباب على مخاوفه , و كان ما كان يتوقعه ..! على عتبة الدار يقفون بأسلحتهم الموجهة نحوه, إنهم الشرطة أو فرقة المداهمات بزيهم العسكري ,وَ وجوههم المكفهرة..
رغم مظهرهم المخيف ,إلا أنهم إستأذنوا لتفتيش المنزل و اسطحابه معهم الى مركز الشرطة .. أومأَ احمد برأسه إيجاباً و طلب من زوجته إلتزام حجابها كي يباشر الالمان تفتيشهم ..قلبوا المنزلَ رأساً على عقب ..كان أحمد يعلم تماما عمّآ يبحثون .. يبحثون عن الإرهاب المختبأ وراء لحيته او ربمآ يعتقدون أنّ ما تحمله زوجته في بطنهآ قنبلة و ليس طفلاً ..!
بعد إنهاء التفتيش اصطُحب أحمد الى مركز الشرطة حيث انهال عليه وابل من الاسئلة التي تشي عن شكوكهم و ارتيابهم بشأنه ,لكنه لم يأبه لأنه يعرف تمام المعرفة أنه بريئ من ظنونهم تجاهه .
قضى احمد ليلته الاولى في زنزانة منفردة و يا لها من بداية تبشر بالخير و تفتح أفق الامل ..!
بعد ثلاثة أيام في سجون الألمان عاد الى بيته محاولا تناسي الإهانات التي تعرض لها دون سبب .. إستحم و بدل ملابسه ثم جلس مع زوجته في غرفة المعيشة بيده فنجان قهوته و انشرح يسرد عليهآ ما حصل معه في غياب ثلاث ليال متتالية ..
كل ّالأيام التي تلت الإستقبال المهين في الزنزانة لم تمضي على ما يرام .. أيامٌ أدرك فيه أحمد معنى الديموقراطية المزعومة في بلاد الغرب ,تلك الديموقراطية التي طالما اجتاحت الصفحة الاولى من مجلاتهم و مجلاتنا , الديموقراطية التي أقاموا لها المؤتمرات و أنشؤا لها المواثيق ..هي نفسها التي منعته من تسجيل ابنتيه في المدارس كغيرهما من الاطفال ,و التي لم تسمح له بإدخال زوجته إلى المشفى لولادتها الطارئة .. انها الديموقراطية التي قتلت ابنه الذي لم يرى النور و كادت تودي بحياة زوجته ..!
كره احمد مدن الغرب بمن فيها بعد موت الجنين , كره الارض التي اختبأ فيهآ من القصف مثل الجبناء ,و بات الاكسجين فيهآ غازا ساما قاتلا له!
*
*
*
"دائما ما يقال ان طريق العودة اسرع من طريق الرحيل "_ يتحدث في نفسه _ و عيناه تتبعان تحرك الاشياء من شباك السيارة التي تتقدم عابرة الحدود .. بعد نصف ساعة يحط رحاله في قرية كانت أضرار القصف عليهآ اخف من القرى المحيطة .. هنآك ستمكث عائلته و شبح الموت يتربص بها .. لكن شيئا ما في داخله كان يعزيه .. شيئ يجعله يعود حاملا حتفه على كتفيه بكل
سرور و رضى ..
" منذ شهر تركت هذه البلاد هاربا من قصف المدافع و رصاص الرشاشات و ها انا أعود اليها هاربا من الغربة و عدم الانتماء و تأنيب الضمير , لكن لآ بأس فأنا اضمن اني سألتحف هذه الأرض و روحي ساكنة مطمئنة "
*
*
*
حين تلفظك كل بقاع الارض .. حين ينفر منك كل شيئ و ينفيك من ذاته.. لا يبقى لك سوى وطنك يحتويك .. لا يبقى لك سوى ثراه يدفئ برودة جسدك .. و لو كان هذا الوطن ركاما .. رمآدا.. القليل من الترآب و حجرتين ..!