لازلت وفيا لعادتي ككل أيام العطل ،أن أخرج بعد ان تميل الشمس لوداعها الأخير ،في يدي آلة تصوير،
ألتقط بعدستها وجوها أختارها بعناية متعمدة ، من خلالها أهرب من طنين ذاكرة يملؤها الأنين لم يصدأ ، ولم تظهر عليه علامات الكبر ،
كمفاصيلي التي تشيخ كل يوم أكثر..
أذكر كل تفاصيل تلك الليلة ،أهو الندم الذي يدفعني أن أبحث بين الوجوه ،عن وجه صبية جميلة تتقد بالحياة ،
لست أدري ..فكل ما أعرفه أني مثقل بخطيئة هي عمر ولدي الوحيد فارس..
منذ زواجي وأنا أحاول ان ابتعد قدر الإمكان على ان ازرع في رحم زوجتي بذرة ،
بذرة تحمل الخوف والعار ..
أحسست بأن ذاكرتي ستعود بي إلى وجع ،أعمل جاهدا على تناسيه منذ زمن ..
وجدتني دون وعي أسابق عمري وأجري كشاب في عمر الربيع ، سقطت مني آلة تصويري وقادتني قدماي ،
إلى مهد طفولتي ،بيتي المهجور منذ وفاة والداي ،لأحتمي به من سوط الذكرى الموجعة
أقفلت الباب جيدا ،وتحسست بيدي الحائط ,أنرت المكان ،فسطع الضوء
أدرت وجهي هرباً من صور متلاحقة برقت في كل الاماكن تلاحقني كضربات تؤلم قلبي
، فيسيل دما ملوثا كريها ،يعبق برائحة الموت والصمت
فجأة، وكأن قوة ما تدير رأسي نحو صورة على أعلى رف في مكتبة والدي
عليها ضباب من زمن كئيب ،ٱقتربت منها ويداي ترتجفان ،اخذتها نفضت عنها الغبار ونظرت إليها
كنت أنا وبجانبي توأمي، تلك الطفلة التي لم تكبر ،كانت تنظر الى الفراغ ،عيناها تائهتان ،أذكر أنها الفرصة الوحيدة
التي عانقت فيها نسيما خارج أسوار غرفتها ، لازلت أذكر بكاءها المتواصل ،وصوت والدي المتذمر
الذي يقفل الباب عليها ،بغضب ناظرا لوالدتي بتهديد مخيف ،وكأنه يلومها أنها السبب في بذرة لم تكن كاملة
كان يتصرف هكذا كلما كان في منزلنا ضيوف، لايريد لصورته ان تهتز بمشهد طفلة يخجله وجودها ،لهذا رحل بنا إلى هذا المكان البعيد;
وبقي هو هناك في البيت القديم يستقبل زواره ،ويستغل علمه الجاهل في ان يطبع في داخلي
رجولة من ورق ،وأن مايصيب المرء من ٱختلال الطبيعة من الأنثى يأتينا،
كان كل يوم يعود إلينا،بعد ان تنام المدينة وأختي،
وكنت الوحيد المسموح له بمرافقته في البيت القديم لهذا كنت احيانا امر هناك بعد انتهائي من كل حصصي المدرسية،
فكان يفتخر بي أمام أصحابه ،ويفاخر بي كل اهله ،وأزداد غرورا كلما لمع الٱعتزاز
في نبرة والدي ،وهو يشير إلي ،أني سأدرس الطب ،لأكون جراحا مشهورا ،ويزيدني هذا حماسا ،
ليشتعل في داخلي تحدٍ لكل أقراني ..
في هذه الأثناء أنزلت الصورة من يدي ،والعرق يندي من جبيني،ألهث وكأني في حلبة سباق،
اقتربت ببطء من الأريكة ،وجلست وأنا أمسك برأسي بين يدي ،أردت أن أصرخ ،أن أبكي ،لمست عنقي بيد وأنا أبتلع ريقي,
وباليد الأخرى أمسح على عيني ، كأني بهذه الحركة أنكر عني البكاء ،
وكأني أخاف أن ترى روح والدي
التي تطوف بالمكان ندمي على ماأقدمت عليه ،وهو من كان يفاخر برجولتي التي اينعت قبل اوانها..
رفعت يدي على شعر رأسي، ونظرت الى السقف وتذكرت آلة التصوير ،عرفت انها سقطت مني بينما كنت اهرول بعيدا عن ذكرياتي
؛أطلقت تنهيدة كبيرة افرغت فيها كل حزني ..
ولم أستطع أن اوقف السيل الجارف من ذاكرتي الذي يمزق روحي ...
حينماكنت في السنوات الاولى من زواجي كيف جعلت من حلم زوجتي كابوسا حين لمست الفرحة رحمها ،
وكيف كنت جلادا لا يرحم ،حين اقتلعت من بطنها توأم ٱبننا،كنت أعرف ان الانثى ستحمل الخطيئة في جيناتها ،
فوهبتها لملجأ بعيد عن مدينتنا وأوهمت زوجتي بموت الطفلة في أحشائها....
ونسيت أني في زمن غير زمن والدي، وأن زوجتي لم تكن أبدا هي أمي ..
أفرغت ذاكرتي لأرى شلال الندم يتهاطل من روحي ليغسل وجهي ....