ذات الخمار
لوعة في القلب ، و شرود في الذهن و رعشة حنين باردة تجتاح جسدي ، هكذا تبدأ قصة شوقي كل يوم ،
أستيقظ صباحاً وأنا أبحث عن ذاتي ، ما حدث معي جعلني كـ قلم حبر دون ورقة ، أو نهار دون نور ،
ها أنا أستعد للخروج للعمل ، ماذا أيتها المرآة ؟ هل أبدوا لك نحيلاً ؟ كئيب الوجه ؟
أنا أعلم بحالي فـ رجاءً اصمتي و لا تذكّريني ، أُغلقُ الباب خلفي و أستقلُّ أوّل سيّارة أجرة تقابلني ..
أبدأ عملي مرهقا قبل شروق شمس يومي ..
اليوم ، قابلت أول زبون بوجه كئيب ، شعرت أنّه تضايق ، اعتذرت منه بلطف و توالت اعتذاراتي , أجل لم أعد أعرف نفسي
لم أعد صاحب البسمة المشرقة و المشاعر الدافئة ....
قبل نصف ساعة من انتهاء دوامي ، دخلت زبونةٌ مخمّرةُ بالكامل ، أعطتني ورقة بيضاء ، سألتها : ماهذه؟ قالت : اكتب بها ما يجول في خاطرك فقط ،
كتبت ( مشتاق ) ، أخذت الورقة وذهبت ، لم أستطع منعها فهي فتاةٌ بالنهاية ، توجّهت للحديقة جوار منزلها ، تغنيت للساهر تارّة ، ورددت أشعار نزار تارّة أخرى ،
شعرت بالمطر اقترب للهطول ، فعدت للمنزل ، وضعتُ وردةً حمراء فوق صورتها ، وتوجّهتُ لفراشي ، فقد حانَ وقتُ النوم..، ولكن لحظة..،
ما قصّة الورقة؟ ومن هي تلك الفتاة؟ ولماذا فعلت هذا؟ كيف سأنام؟ وفي غفلة من تفكيري سرقني النوم .. ،
نهضت باكراً من فراشي فوجدت ورقةً على يميني ، كُتِبَ فيها : اترك الشوق جانباً وفكّر بذاتِ الخمار..
كيف وصلت الورقة لهنا؟ من الّذي وضعها ؟ المنزل مقفل؟!! أوووه سأُجنّ .. ،
نفضتُ الغبار عن ذاكرتي ، و رحت للبقّالية لشراءِ الخضار ، قال لي صاحب البقاليّة ، جاري العزيز ، هناك فتاةٌ تركت لك هذه الرسالة ،
أخذْتُ حاجيّاتي وعدتُ للمنزلِ بسرعةٍ لأفتح الرسالة ، ماذاً !! لاااا لن أصدّق ، ( اترك الخضار جانباً وفكر بذات الخمار.. ) ،
واستمرّت الرسائل باليوم الثاني والثالث، وكل مرّة تكون مع جارٍ قريب ، مما اضطرني لأمدّد اجازتي لمدة مفتوحة .. ، سألت أحدهم ماهي صفاتها؟
أخبرني : هي تلبس الخمار ولا نعرف عنها شيء آخر..
جلست في المنزل وأنا أفكّر ، من هي ؟ ولماذا أنا ؟ ، أصبح شغلي الشاغل معرفة ذات الخمار..،
فتحت بريدي الالكتروني ، وجدت نفس الرسالة ومن حساب مقفل ...،
بعد مرور أسبوع على الجنون ، رنّ هاتفي الساعة الثالثة فجراً ، رددت وأنا بحالة ذعر ، سمعت همسات رنانة تقول لي :
اترك النوم جانباً ، وفكر ب ذات الخمار... ، أُغلِقَ الاتّصال ، والمصيبة كان الرقم خاص ولايظهر.. ،
فنجاة قهوة ، ورسائل ، وأنا ، أهذا حال إنسان في الفجر؟ يارب إلى متى هذا الحال؟ دوام هذا الحال من المُحال..!، أفكار تلوح بالأفق ولكن لاجدوى!!، فكرت بحلٍّ
فلم أجد سوى السفر لمدة يومين لمنطقة ساحلية ، علّي أستطيع تصفية ذهني من الارهاق الشديد ، وصلت للفندق ، ومن ثم توجهت للبحر وتخيّلت أمواجه تناديني ، تطلب مني الابتعاد عن
التفكير بما يرهقني ، ولكنّي تجاهلت ندائها ، ورحت أركب الأمواج بدراجة بحرية ، أحاول الوصول للمتعة المنشودة ، وعند المساء عدت للفندق ونمت أكثر من عشر ساعات ،
لأول مرة منذ أيّام طويلة ، كانا يومين اجازة ، ولكنّي ابتعدت بهما عن كل ما يؤرّق ذاكرتي ، طلبت حسابي بالفندق قبل المغادرة فردّ علي المحاسب : أستاذي الحساب تم دفعه!!،
سألته كيف حصل هذا؟ أجاب فتاةٌ تلبس خماراً أسوداً دفعت عنك وتركت لك وردة حمراء ، أخذت الوردة وبداخلها ورقة كتب فيها ( لقد نسيت الوردة في المنزل ، إياك أن تنسى مرة أخرى التفكير بذات الخمار)،
عدت لمدينتي وأرقي وصل لحدٍّ لايطاق ، فكيف لذات الخمار أن تصل للساحل ولفندقي ، كيف دخلت لمنزلي وأخذت الوردة ؟ ، لا أكاد أصدق متى أصل لمنزلي ، وحين وصلت لم أستطع فتح الباب،
حاولت ادخال المفتاح ولكن لاجدوى ، هناك من غير القفل!! ، جائتني رسالة بعد ثلاث دقائق على جوالي بأنّي سأجد المفتاح الجديد مع صاحب البقاليّة ، ذهبت وحصلت عليه ، لم أسأله من وكيف ،
لأني أعرف من الفاعل ، وهممتُ لبيتي ، وبحثت عن الرسالة ووجدتها : ( هذه عقوبة من يحاول نسيان ذات الخمار ) ، وصلت لمرحلة الجنون الكبييير ، مالذي يحدث؟
أصبحت ذات الخمار تسكن حياتي بالكامل ، تعيش معي وتنام معي ، أصبحت جزءاً مني ، كيف يحصل هذا ؟ ولماذا؟ ، كفى أرجوكِ أيها المخمرة ،
لم أجد حلّاً سوى إنهاء اجازتي ، والعودة للعمل ، أصبحت أتهرب من التفكير بها ، لأني لو فكرت بها لحظة واحدة أخرى لانتحرت على الفور ، تغيّر كل شيء هنا ،
لم أعد أنا كالسابق ، حتى زبائني بدأت تنفر منّي ، كل شيء تحطّم وتغيّر ، ولم يعرف السرور طريقاً وجهي طوال هذه الأيام.. ،
بعد انقضاء يومين من العمل استدعاني مديري ، اعتذرت منه على تأخر اجازتي ، قال لي : لايهم ، المهم هل عرفت شيء عن ذات الخمار؟
هنا فقدت صوابي ، غضبت كثيراً وبدأت بالصراخ ، حتى أنت تعرف ذات الخمار؟ مابك !! ؟ عدت للعمل لكي أنساها وها أنت تذكرني بها ، أعذرني .. ، لم أعد أريد العمل هنا ،
للحظةٍ ما كنت سأحطم كل مافي جانبي ، فقدت السيطرة على أعصابي ، ولهذا هممت بالخروج بسرعة من المكتب ،
وفي لحظة خروجي أخبرني الآذن أن هناك من وضع رسالة على مكتبي ، رأيت منديلاً أحمر نثر عليه ( كان اتفاقنا أن تترك كل شيء وتفكر بـ ذات الخمار ) ،
مزّقتُ الرسالة بقوّة ودهستُها ، لم أعد أحتملها ، وخرجت من الشركة بغضب ، ورميت كل الرسائل الموجودة في حقيبتي ، ومن ثم توجّهت للمنزل ودهست الوردة الحمراء ،
وبعدها اشتريتُ شريحة جديدة لهاتفي ، تركت منزلي وسكنت بغرفة بعيدة، لم أعد أريد أحد ، أريد البقاء وحيداً ، بعيداً عن ذات الخمار وعن الارهاق الفكري الشديد، مرّ أسبوع وعشر أيّام ، ولم أسمع أي خبر عن ذات الخمار ،
شعرت براحةٍ كبيرة ، وأخيراً استيقظت من هذا الكابوس ، كابوس حوّل حياتي لجحيم ، يجب أن أعود كما كنت كالسابق..،
، وهنا تذكرت حبيبتي الغائبة ، ذهبتُ للحديقة ، لأعيد ذكريات الماضي ، ماضٍ يحرقني ولا حاضر يقتلني ، جلستُ على نفس الكرسي ، ماهذا؟ رسالة ؟ مضمونها : ( وأخيراً عدت لذات الخمار ) فكرت برمي نفسي بالنهر ،
أو حتى بدفن نفسي تحت التراب ، وبكيت كثيراً وكثيراً ... ، وبدأت بترديد أبيات الشعر حزينة على غير عادتي ،
ومن دون سابق انذار!! سمعت صوتاً قريباً يُتمتم : دع العالم جانباً وانظر إليّ،،
أدرت وجهي ! ماذا !! إنها أنتِ ؟؟ حبيبتي من ؟ وكيف ؟ أنت حية لست ميتة ؟ هل هو حلْم؟ ، أجيبي أرجوكِ ،
_ حبيبي : السرطان دخل جسدي ، وأحرق عروقي ،
كان أن يقتلني ، ولكني والحمدلله شفيت وعدْت..
- حبيبتي ألم تموتي بحادث أليم بالغربة؟ أليس هذا ما قتلني به والدك؟..
- حبيبي غربتي كانت للعلاج وليس للسياحة ، فمرضي اكتشفته عندما كنت بجانبك ، وقررت الموت قبل أن أموت ، اعذرني ...
- حبيبتي وما قصة ذات الخمار ؟
- أنا كنت صاحبة ذاك الخمار ، أنا من أعطاك تلك الورقة ، أنا من أحرقت لك أعصابك ، وأنا من وزع الرسائل على الجميع ، أردت أن أعيدك لي كما كنت ، أردت أن أنسيك قصة موتي ،
وعندما رأيتك ضقت ذرعاً وعدت للعمل ، طلبت من مديرك أن يسألك عن ذات الخمار ، وبنفس اللحظة وضعت لك الرسالة جانباً ، راقبتك وأنت تمزق الرسائل ، وتصرخ ، ومن ثم اختفيت عن الأنظار
لم أجد طريقاً لك ، ولكني كنت مدركة أن الحديقة ستكون وجهتك يوماً ما ، فانتظرتك هنا طوال العشرة أيام ، لكي أعرّفك بنفسي ، وضعت لك الرسالة على الكرسي كي لاأسمح لك بأن تفكر بقصة موتي
، حتى أحيا من جديد بنفس المكان الذي افترقنا فيه ، هكذا أضمن أنك عدت لي وأنك نسيت قصّة موتي .. ،
أنا هي ذات الخمار الأسود ، الّذي سلّمتها بيدك كلمة مشتاق ، فحول حياتك لجنون ، أردت أن أقتل شوقك لميتة ، لتحيا مشاعرنا من جديد ،
عانقتها بشدة ، قبّلتها من يدها ورأسها ، ورفعتها للسماء وشكرت الله ، وعادت الحياة لنا من جديد..
تمّت.