كنت أظن بأنني الأنثى التي خلقت لتعيش وحدها و تموت وحدها دون أن تُقَبِّلَ أشعة الشمس هامتها كما نبات الظل الخجول أو كزهرة المانوليا التي لا تزهر إلا وحيدة بين أحضان شتلتها، هذه الفكرة القاتمة جعلت من حياتي مرتعا للصراعات الضارية بين الفتاة القوية الصارمة التي أحاول جاهدة أن أكونها و بين الفتاة الصغيرة الحالمة التي تبحث ككل الفتيات عن نصيبها من كعكة الحب الحلوة، فكنت أخلص بعد كل صراع إلى نفس النتيجة، في هذا الكون كله لم و لن يوجد رجل يفهمني، لن أجد رجلا يكون على مقاسي، يكون لباسي و أكون لباسه، ارتديه و يرتديني دون أن يتذمر أحدنا من الآخر أو يتمرد أحدنا على الآخر و لهذا بدأت أتجاهل أن هناك جنس آخر غير النساء على هذه الأرض، جنس يطلق لحيته و شاربه و يتكلم بخشونة و يخصب الأرحام ليملأ الدنيا أطفالا.
عشت على هذا الحال زمنا طويلا تضاعف فيه اقتناعي بأنني هكذا خلقت و هكذا سأبقى إلى أن إلى أن أواجه وجه ربي الكريم.
لم تكن هذه الأفكار نتاج عقد نفسية فحسب، بل كانت قناعة اكتسبتها من خبراتي القليلة في الحياة، فقد كنت -ذات حلم- كغيري من الفتيات، روحا وردية لا تكف عن الشرود الجميل و الرفرفة برموش من أمل و كنت أرى في كل وجه مذكر نصفا محتملا لي، و في كل همسة عابثة قصة متكاملة الأجزاء نهايتها ثوب أبيض و باقة فل، لكنني عرفت أن هذا الزمن السادي يعامل البراءة و التلقائية كما يعامل الوقاحة و الخبث، و يعامل الفتيات الصغيرات كما يعامل بائعات الهوى و يجهض الأحلام الوردية بقسوة تثير السخط و اليأس في ذات الحين، توالت الخيبات في عالمي الهش و تظافرت الأسباب لتجعلني أنثى بلا قلب، أنثى وقعت معاهدة “اللااقتراب” مع الرجال، تعيش معهم على نفس الأرض لكنها تتجاهل وجودهم بكل ما أوتيت من كرامة.
لكنني لم أظن يوما بأن الرياح آتية بما لا تشتهيه سفني و بأن كل خططي لمستقبلي القاتم الجاف سترتبك عندما يطل طيفه على حياتي الرتيبة، رجل عادي جداً، ميزته التي حركتني هي قلبه الطيب و تعاطفه اللامشروط مع كل معاناة يصادفها في طريقه و ابتسامته التي لا تغيب عن محياه مهما كان الظرف و مهما كان الحال.
يده الممدودة إلي أشعرتني في بادىء الأمر بالخوف الذي سرعان ما تحول إلى فضول مشوب ببعض الحذر ثم إلى احترام مهول لشخصه الصادق...مزيج من التفاعلات الغريبة هاجمتني، قاومت بشراسة لكن أدبه و صراحته لم يتركا لي فرصة التعامل معه بقسوة، هدفه واضح و قصده أيضا كذلك، رفض نصفي و تردد نصفي الآخر لكن خاتمه حسم الأمر في النهاية
