في ذكراك
أقبل الصبح محتضنا جسد المدينة التي استلقت على سرير وهم بحجم الضباب ..بين ثنايا العيون الشاردة ..!
و انا الجالس وراء النوافذ المغلقة كنت أحمل شمعتي الشاحبة و بوصلة ..منك أهرب يا فضاء التهمة و يا زمن العقم و أقاوم طوفان الذكريات المنسابة حد الإستكانة الخادعة !..
يا قرية التيه و يا عيون بلدتي التي لا تقبل سوى النجوم الجوالة حول القمر و الشموس التي لا تأفل لتطريز وجه العالم بورود غد مشرق بسام ..
من أي ثقب زمني رهيب تسلل هذا اليوم ليذكرني عيون أخي ..نظراته و حديثه ..اشتقته حقا فتحركت في دواخلي رعشات و غبار كاد ينسيني لحظات سكنتني و الى الأبد ..
فقررت ان أتحرك و أمضي وحيدا في اتجاهي الذي كان عهدا بيننا ..
خرجت قاصدا ذاك المكان و في طريقي خمنت أن أمثالي صاروا متعبين رغم قدرتهم على تحليل وضعهم الإجتماعي بمنطق الرياضيات الكلاسيكية و فكرهم الفلسفي ..
وصلت المقبرة فوجدت جموع البشر منهم من هو خارج و منهم من هو داخل ..تقدمت خطوات الى الأمام ..سلمت على مدينة الأموات و قرأت الدعاء ..
لكن كم هو صعب أن تسلم فيأتيك وحده رجع الصدى ليعلن لك الخبر اليقين ..لا مجيب و حدها ذكريات الأمس القريب تتحرك بدواخلي ..لتتفجر كالبراكين المشتعلة ..
آه ..هي ذي ملامحك أخي و أنت راقد رقدتك الأخيرة ..!!
هل فعلا فعلوها و مضوا في امان أم أن الأرض وزعت بسماتها على العابرين من أمثالهم في انتظار أن يمنحهم القدر حسابه المكتوب ..
فكانت تلك النهاية باردة و بالشكل الذي لم أتخيله يوما ..انا الذي توقعت كل النهايات و انا أجوب تلك الدروب لم أتوقع أن يكون رحيلك بلا عودة ..
بسمتك لازالت تفتح في ذاكرتي باب الأمل ..و عيناك بنظراتها لازالت تضم حزني و تحن لحالي و جرحي ..و أنا هاهنا تنساب عبراتي من حر الذكرى ..
بحزن عميق و انا أعيش ذكراك دعني ابكيك و الحنين يلتهم مدنك التي توقفت عن النبض ..
دعني أعترف في حضرة هذا الصباح و على امتداد هذه المسافة التي تفصلنا أن فقدانك كان بحجم مصيبة .. فرحلت و في خاطرك كلام لم تبح به ..
رحلت مخلفا وراءك زمنا لعذاباتي و آخر للجراح !..
عندما فاجأني رحيلك مددت يدي لأخنق صوتي و امسح دموعي لكن عجزي كان الأقوى فانصهرت في ضخامة اللحظة و في شرايين الوجع ..
حبيبي هل لازلت تذكر جلستنا الأخيرة و أنت ترسم بفكرك النقي طريقا للحوار و آخر للشوارع الموغلة في الزمن ..
و ها أنت الآن تركتني وحيدا أجوب دروب هذا العالم الموحش ..تنام العصافير و أبيت وحيدا على تلة الذكريات ..بين الجراح و الدموع كان صمتي يكبر و غربتي ..
و وحده خريف عمري يترنح ليسامر حزن الطيور ..كنت هنا واقفا أمام هذا القبر ، قرأت الفاتحة ترحما على روح الفقيد و دعوت له بالرحمة و المغفرة ..
كانت دموعي تنهمر عندما اخترق مسمعي بكاء و صراخ .. انتبهت الى مصدرهما، كانت امرأة في بكائها تعد مناقب الراحل و تحرك الوجع في القلوب،
بين الدموع و كلامها حكاية مصيبة عظمى و فاجعة .. العتمة هنا أزلية ..أرامل تبكي و أحزان. أدركت حقا أن هذه هي كوة المكان السحيق
الذي تركض على أديمه الأرواح و هي تمشيمشيتها الأخيرة على ارض الحياة ..آه !..و انا واقف أمام هذا القبر أحسست بالضآلة ..
تذكرت كل من رحلوا واحدا واحدا ..فأعدت بكائي و سالت الدموع بغزارة ..
هذه الدروب خالية و مرعبة و وحدي تتقاذفني أمواج الذكريات و الوجع ..كانوا جميعا هناك و اليوم ها هم هنا تحت الثرى ..
منهم من صبر العمر كله من أجل خبز يابس و مات كمدا .. منهم من ناضل من أجل هذا الوطن حتى الرمق الأخير ..
منهم من قدم نفسه قربانا في سبيل هذا البلد !..كأخي حين وهب حياته خدمة لأجيال هذا الوطن فرحل في صمت السنين..!!
كم من أجساد تعفنت في غياهب الظلم و الظلام .. فحملوها الى هناك حيث الغسق وحده كان شاهدا ..فجأة يقطع خيط أفكاري صوت شجن ليذكرني بنهاية الزيارة ..
كانت الدموع لازالت تداعب خداي و منديلي وحده كان يجفف ألمي و أحزاني - في ذكراك أخي رغم السلوان ففي القلب وشم جرح صعب أن يندمل - ..
سلمت على روح أخي الطاهرة و غادرت المقبرة و في قلبي بقايا كلام و جبال أحزان !!!..
بقلم : جد عمر