تحت قبّة المركز الثقافي البيضاوية نشرتُ بعضا منّي، ومن عشقي للشوارع الضيّقة للقصبة¹..... كان البناء حديثا، مصقولا بزخرفة ألوان مميعة، تغدق على الجدران شلالات مبهرة للعيون، غيّبتني تلك الجداريّة بتفاصيلها و ألوانها التي تحملُك لمُحيط مُغايِر، عن عالمِ لوحاتي المغبرّةِ بشتى أنواع الغرافيت، حتى أنني لوهلة تساءلت إن كانت أسوار المركز ستأسر الحضور عن لوحاتٍ عُنـوِنَ معرضها بالمُخلّفات.
بارتعاشة أصابعٍ، كنت أُموضِعُ ورقي الأبيض المرصص أسودا ، باغتتني يده على حين غرة رابتة على كتفي فتلعثمت، و زاد ارتعادي تردُداً و أنا أرى وجه أهيب ناقد عرفته ،الإنسان الذي أثنى على موهبتي الغضة ، صقل و لقّم ضرباتِ قلمي الرصاصي و علّمني كيف أمزج منّي على الورق.
ــ ما بالُ لمساتِكِ الفنية قد اهترأت بُنيّتي؟
انعجن بعضي في كُلّي و أعلنت الوجنتان انطباخهُما بذريعة سفاسِف كلِمات أسقطها أستاذي، لم أكن قابلة بعدُ للرؤى السلبيّة في ظل عصبيّتي المفرطة قبل افتتاح المعرض، احتجبت للحظات ثقتي في أعمالي، و وجدتني واقعة في شرخ معادلة نفسيّة غير سويّة ، لكنّها سرعان ما التأمت بجملة أخرى صوّبها مُعلّمي بدقة.
ــ أين هي براعة التظليل بأصابِعك على اللوحات فما عهدت أناملك مرتعشة كتنسيقك للوحات اليوم
ابتسم و أكمل ملاحظاته دون إطناب في الحديث أو إسراف في إظهار آرائه حولها، بينما أنا تشربت تلك الطاقة بوجوده، و أعلنت تقاسيم وجهي بِشرها.
طُعمُ المعارض لا يصطاد أفراد مُجتمعي ، بل ما استهواهم كان حفل ""الراي"" الصاخب المُقام على بقايا الأطلال، في المسرح الروماني الطلق المقابل للمركز، فشتان بين صنّارة وحيدة و شبكة كبيرة و لو ملأتها الثقوب.
كان فراغ الأروقة، يُسمعني خُطا قلّة الزائرين من وجوه طلبة مستحدثين بالمعهد، و بعض ممن رافقهم الفضول للدخول و كذا ندرة من المهتمين بالرسم.
راقبت عن كثب اهتماماتِ الزائرين في الاطلاع على اللوحات،في حين ناوشت بعض ابتساماتي قلقي و أنا أنظر لبعض بُنيّاتي اللواتي رسمتهن و أُعيد شريط ذكرياتهن و لحظات مخاضهن، وامتزاجهن بعرق أصابعي عندما أحملهن، أذكر كل شيء حتى إلهامات تسميتهن و بالخصوص كانت المُخلفات من أحسن الأسماء التي أطلقتها على إحداهن...فكانت مدللتي و ثمرة جمعت بين مورثات أعمالي السابقة...
فلحظات ولادتها كانت عسيرة، و قطرات عرقي تبللت يومها بعَبراتي، كان يوما مشرقا إلا أن بعض السحب رغم بياضها كانت أحيانا تحجب ما بدا لنا في النور منبثقا سواء كان من بياض أو سواد
في لوحة المخلفاتِ، توازت الجدران لترسم الممرات الضيقة للقصبة بأدراجها القصيرة و بأبوابها المتباينة، حتى لونها الّأبيض اتسم بالأسود خليلا بفعل حتّ السنون و رماد الماضي، فالقصبة الحي الوحيد الذي يأهله السكان و مازالت أشباح الماضي تُراودهم كل ليلة عن أصوات نعال الجنود بأدراجها الإسمنتية.
ما استدرج شابا ليقطع ذكرياتي المتخمة بالمشاعر اتجاه روائح الحي في لوحتي التي لم أخلف مشهدها هباء، سؤاله إياي عن الفتاة التي تتوسط الصورة بفستانها الأسود القصير دون أكمام الذي يمنح الحرية ليتشعب من زندها إلى خنصرها بياض مستوفٍ و من ركبتها إلى قدمها نصاعة تنتفض، وعن علاقتها بالمخلفات، مع أنّه لم تلفت انتباهه تلك المرأة العجوز بالحايك² الأبيض و خيالها الذي يُكتَبُ ضياعه في أقصى زاوية للمنازل، و هي تستقل درجات الشارع كأنها راحلة إلى زمنها، كان الشاب كمن يؤنبني عن تصنيفاتي للمخلفات و لم يكن الحياد خيارا مناسبا أتخذه في التعريف عن قطعة مني، و لا حتى الشرح كان سيبرأ ذمتي بما أن ذلك الشخص نظر من حد واحد، لذلك فإن بعض الأسئلة يجب تجنبها برد ملون كالحرباء فلا تكون أبيضا أو أسودا، كما يفعل البعض في المقابلات الصحفية ليس لأن المعنيّ غير متمكن من الإجابة بل لأنه يريد من السائل أن يُظهِر الجانب الذي جذبه إلى عمله و أن يفحص ما استنطقه من كله و كذا أن يجمع الثقة بتجاوبه، فأجبته:
ــ الصورة تحمل تباينات عدّة ، هي كاملة بتفاصيلها، و اللون الأسود للفستان يمنح لقوامها البض الأبيض قيمة في الصورة، الـ...
ــ إن كانت التباينات واضحة بحسبك، و تعتقدين أن واقعية رسوماتك لا تلزمك شرحا مستفيضا كرسامي الفن التجريدي، فماذا عن المرأة الثالثة في اللوحة، المرأة ذاتُ الظل الأسود التي جمدتِ هرولتها عند انعطاف العين المشتركة بالزقاق، و هي تهرب من حجارة حشد الأطفال خلفها.......قاطعنا أستاذي.
راقني هذا التدخل الذي كان ذكيا، يفتح بابًا لتدعيم ردي و يجعل فضول الشاب يسمّره بمكانه، كما يلقي بذهنه حزمة ضوئية تسلط انعكاسا لمعنى اللوحة.... ابتسمت و رددت
ــ في ذلك اليوم المشمس، وزعتُ أوراقي طمعا في رسم بياض القصبة لكن تداخل أطياف الناس الذين يسكنونها، جعلني أرسمُ ألوان ماضيهم و حاضرهم، قصة تلك المجنونة رواها لي أحد القاطنين هناك،هي امرأة احتمت بالقصبة لما نسف الاستعمار الفرنسي قريتها، يقال أنها لما كانت فارّة من القصف المتواصل عليهم سقطت فأوقعت رضيعها في حفرة، وظِل الموت الذي يكاد يهوي على أرواحهم جعلها تجري بعين بيضاء دون بؤبئها الأسود فلم تنظر خلفها، رجوعها في اليوم الموالي كان كالرجوع لأرض لم تعرفها قَط، ولتسع أشهر تعسّرت لتدفن قلبا لم ترويه رضاعتُها نبضا آخر، و كأن ليلتها الفاحمة يومها رفلت تستعرض رمادها على موطنها للصباح الموالي.... مع ذلك فإن بيت أخيها المناضل بالقصبة لم يكن مأوى يضم أضلاعها، فشعرة الجنون و العقل لديها اكتفت بحد مقص، كمقصلة الكهرباء التي أفرغت شحناتِ عقلها منها بعد أن عقدت العزم بأن تعيد سواد بؤبؤي عينيها و تكفّر عن ذنبها بحجم وطن، لا أن يزلّ لسانها عن المجاهدين كما زلّت بموطئ قدم، حين رفضت بعينيها الكحيلتين كل إقرار يعصف بموطنها للأزل.
استصعب الكلام حيازة مكان بحلقي الذي جرحه كتم العبرات، و في برهة استبسل
ــ اعذراني ... يؤلمني ....يؤلمني مشهد أخير عجزتُ رسمه، كانت تلك المرأة بعد أن يُرمى عليها بحجارة تقصف ما علق بعقلها، تعود كل مرّة لتبحث عن ابنها بين بعض الحفر و الشقوق هنا و هناك في أزقة القصبة.
عند انتهاء الوقت المخصص للمعرض، وبينما يتناقش والداي مع معلمي، وتهتم صديقة بمهمة جمع اللوحات، وقفت خلف نافذة المركز الثقافي مسندة جبهتي عليها، أضع بعض لون الشفق الأحمر في عيني لأغير بعض النهايات القاتمة من بالي،لكن هيهات لبصر أجحف بحقه السمع، فجعل ملكة التبصر تختفي بصخب الحفل المقابل، و على إثر اضطراب وجهة رؤيتي، كان ذلك الشاب الذي غير نظرته التقليدية يقطع الطريق في التقاطع الذي يؤدي للمسرح الروماني، ودون سابق إنذار اجتمعت الحواس على أن تُخلّد بكل خلية من أنحائي رعبا، عند انطلاق الغمامة الرمادية المتعاظمة و هي تهلك كل الصور و انفجارها يصم كل طبل بأذن....
الزجاج المزدوج للمركز قلل من الصدمة بين ربوعه، و كانت صدمتي بضياع الشاب أكبر في ذلك اللون الرمادي الذي كُوّن عن اختلاط الحابل بالنابل فدُججت به الثقافة و رصصت به القيم، و أصبح به الدين يُرتجل، فبين التظليل والتضليل ضاعت المعالم السوية للقيم الإنسانية واختلطت على الناس المعاني الازدواجية للأسود و الأبيض.
¹ حي عتيق من أحياء الجزائر العاصمة
² لباس تقليدي جزائري