

زفر في عمق منتزعا قفازيه ، وبدلته البيضاء ... بإيماءة خاطفة تابع تهربه العابث من عينيها مبتسما في خفوت ...بادلته ببسمة مندسة بين صفحات السكون وقد أشرقت تفاصيلها وراء كومة الأنابيب المتناثرة على امتداد الطاولة الفاصلة بينهما . كانت تحدق في قعر الأنبوب ذي الغطاء الأرجواني مطبقة الشفتين ، تختلق للصمت هالة تغطي ضجيج أنفاسهما المنسابة عبر مساحات المختبر ...دار بعينيه حول نفسه مستجديا مايجمل به نزعه فلم يجد بدا من نزع معطف الصمت وهو يتنحنح باحثا بين أوراق اللغة عما يبعثر به رماد الكلمات الراكدة في منفضة السكون... -يوم عمل آخر شارفت ساعاته على الانتهاء ، فلنقل أن ورقة أخرى من وريقات عمرنا قد سقطت نحو مستقرها القدري....( قالها بصوت هامس دون أن يمعن النظر في عينيها ) - بديهي جدا ، ما دام أن جاذبية القدر والأعمار أكثر بداهة من جاذبية نيوتن وأوراق الشجر ( أجابته دون أن ترفع طرفها وهي تفتح غطاء الأنبوب ) - شرد قليلا و عقد ساعديه على نحو يوحي بالنهم الفكري ..عض شفتيه ثم التقط نفسا عميقا وهو يستطرد معقبا على حديثها : - طبعا...كما أنه من البديهي أن نستسلم لمنطق الحياة ، فندع وراء أظهرنا ذلك التشويش العبثي .. أن ننحني لسطوة الحب وجنونه ، ونستسلم بعدها لتبعات هذا الجنون...حينما ندلف عن طيب خاطر لذاك القفص بلون الذهب... أم أنك ممن لا يغريهم صوت البديهيات ؟ - لا أدري هل أمضّتني ديمومة السؤال ، أم أن بديهية الجواب قد حفرت صدعا عميقا بدواخلي وقد تركت لهامش الشك حيزا لايطاق ( أجابته دون أن ترفع عينيها وهي تضع الشريط اللاصق على الأنبوب ذي الغطاء الأحمر ) عقد حاجبيه ، وقد اشتعلت بأعماقه الرغبة في صهر كلماتها في ذلك "المحلول الأيوني" عله يشف عما توارى وراء لجتها الظاهرة من رواسب ثم أعقبها متسائلا : - قد تتضمن بديهية الجواب الشق الأعظم من أسئلتنا العالقة ..لكن لم ننحو منحى استجداء فتيل الاستثناء من أجل نسف ماشد عن المألوف ؟ وضعت حاملة الإبر فوق الطاولة ، ثم تطلعت إليه لأول مرة بنظرة مركزة وقد ارتسم هيكله المتماوج في عمق أحداقها قائلة : - لربما كان من المستثقل إن لم أقل من المقزز أن ندرك جذوة الجواب دون المرور عبر الأنفاق السرية للاستثناء... بدا وكأنها تلف كلماتها المستعرة بفاصل من الصمت المريب وهي تستطرد قائلة : - مهما بدت مسالك البداهة معبدة إلا أنها ليست الأكثر إغراء ...على الأقل بذلك أومن وكذلك هي قناعتي... تأمل كلماتها مليا ، وقد ألبسته معطف الصمت من جديد ، أحس بأن التدثر به يغنيه عن مقصل المواجهة ...حاول قصقصة أطراف كلماتها لتوافق الجواب العاري بين تلافيف دماغه ، لكن عبثا...حيث بدا في كل مرة ثوب الكلمات مخالفا لمقاس تصوراته
 على طول الشارع الممتد بين المختبر وبيته لا تزال أعقاب كلماتها متقدة ، تضخ دبدبات متلاحقة بين تجاويفه فتبدو الصورة قبالته واضحة أحيانا مشوهة المعالم أحيانا أخرى يمضّه فائض التفاصيل المبهمة التي بدا له كأنها تحالفت مع كلماتها المشفرة في تواطؤ سافر ... أحس بأن رمال الحيرة البالعة تجره عنوة وهو يقف على حين غرة مقطبا جبينه محدقا في نقطة خفية في كبد السماء متسائلا : - هل يحتاج الحب لزخم الغموض هذا ؟ هل يستلزم العروج عبر منعطفات اللغة ، ومن تم المرور من أنفاق الاسثناء السرية ، قبل إدراك جذوة الجواب.... وكيف هو السبيل لاجتياز مساحات الالتباس العاطفي تلك ؟
تأوه في عمق وقد أثقلت كاهله فوضى العبارات المزدحمة بين تجاويف عقله ولسانه مكملا خطواته نحو المجهول...
 في الطرف المقابل لا تزال (هي) متكومة فوق الأريكة ، تراقب خيوط السماء المندلقة عبر زجاج النافذة وصوت حديثهما السالف يصدخ في عمق تلافيفها...وهي تقضم في هوس شبقي كعكة الشوكولا ، تحاول طرح اسمه وصورته من متتالية أفكارها لكن عبثا ، تستجدي التمرد على بديهية حب تتململ أغصانه الزاهرة في نسق مريب ،وسط جدران قلبها كما جدران المختبر وأكوام المستخلصات البشرية بشاذها ومألوفها... كانت أعماقها ترفض فكرة الاذعان لحالة حب بديهي ، يجاوز بتلابيبه أبوابا مشرعة على مصاريعها...تلك العلاقة الروتينية بين زميلي عمل في مقتبل العمر ، بين إيحاءات عبثية وهمسات وكلمات بوح نمطية ..كان يهجس في نفسها ذلك الحب الأسطوري الذي يقتحم الأبواب المواربة بقلبها فيفتحها في دعة متسللا إلى شغافها ، على جنح المستحيل...كان حلما مجنونا قد لا تتوافق فصوله وسمات ذلك العاشق الصامت أمامها ، لكنها تؤمن أن أكثر الأحلام جنونا هي الأقرب لملامسة صفحات الواقع....
 لا يزال(هو ) متماهيا في مسيره ، وحبات المطر البلورية تتشظى على مرمى قدميه ، غارقا في شروده ، يشيح بوجهه يمنة ويسرة كلما ماجت أمامه شظايا الكلمات ذات الأنصال القاصمة ... صرخ في عنف على غير عادته : - لم يكن حديثها منعطفا لغويا عبثيا ، إنها تبحث عن حب قيصري يولد بشراسة متمردا على رحم البداهة ...لا مناص من الوصول إليه إلا عبر الأنفاق السرية للاستثناء...هكذا أرادته حبا غير عادي ...وهكذا هو أنا ، إنسان غير استثنائي ببداهة قدري وتقززي من الأنفاق الغامضة...هكذا هو أنا..هكذا هو أنا....
( رددها بأعلى صوته والدمع السخين ينساب عبر خده الأسيل ) ثم برزت تلك الكتلة السوداء المباغثة وهي تحمله بعيدا ...كالريح تحمل الحصى والقش في طريقها
رن هاتفها و هي تسعل في عنف بعد أن استوطنت حلقها غصة فجائية ، - سيدة "علمي" معك مصلحة الشرطة ، يؤسفنا أن نخبرك بأن زوجك قد توفي إثر حادثة سير مريعة... سعلت في قوة فاغرة فاها وهي تجيبه : - لكنني.. لست متزوجة ، لاشك أنكم أخطأتم ، ثم أن "علمي " ليس اسمي... - عذرا سيدتي لكنه الرقم الصحيح ، ( ثم شرع موظف الشرطة يردده كما هو مستطردا ) ... بحثنا بين أرقام هاتف الضحية عن رقم أحد أقاربه فلم نجد غير اسمك معنونا بعبارة : "زوجتي... عالمي "...
شوهد وهو يصرخ بقوة قبل أن تدهسه شاحنة لنقل البضائع فتحيله أشلاءا على مقربة من نفق الميترو الجديد...
 هوت سماعة الهاتف بين قدميها في عنف ... طوقت الصدمة المدوية أركانها فتسمرت مكانها يضج صدرها بنشيج حار مكبوت وقد تجمد الدمع في عينيها : - كنت زوجته المستقبلية كما أومأ لي دائما ، كنت عالمه الصغير ، مدينة الأحلام التي شيدها في ربض مملكته الوادعة ، ذات المسالك البديهية الخالية من كل الأنفاق .... لكنني أبيت إلى أن أحفر بيدي نفقا قاتما ، لأقحمه فيه في غفلة من بداهة حياته الخالية من كل تعرجات الاسثناء.... فابتلعه النفق كما ابتلعتني سادية نرجسيتي..... وانهدت مملكة البداهة تحت نبراس أنفاق سرية عبثية سخيفة أكملت كلماتها ثم سرعان ما هوت إلى الأرض وقد خبا نشيجها وخفتت أنفاسها اللاهثة
وعيناها تحدقان في سقف الغرفة في لا وعي...
انتهى..
|