
نهر راكد من الملل ذاك الذي كان يسري بين شرايينه ، نفس الوجوه المتجهمة تحيط به ، ثغور باسمة وأخرى ناقمة، نظرات فاحمة ، وأنصاف كلمات قاصمة...ضجيج قاصف يعم المكان ، وعطن ناسف يتسلل عبر الجدران..جلس "عصام" في خضم ذلك كله ودار بعينيه حول نفسه فإذا ماحوله قطع مظلمة تتدجى ...كان النعاس يدهمه بين الفينة والأخرى فيخدر عضلاته ويسبل جفنيه..إلا أنه سرعان ما يستفيق من غفوته اللحظية وقد عمت أوصاله رعشة غامرة بعد أن تمثلت بين يديه رئيسة المصلحة "أحلام" ، والتي يحيل شعرها المنكوش وسحنتها المنتقعة إلى جنية ذائع صيتها في عوالم "الكوابيس " نقيض ما يصرح به اسمها...بوجهها المفعم بالتجاعيد ، وشعرها الأشقر اصطناعيا...مكفهرة الوجه ، يتصاعد عبر شدقيها بخار حار ، وكأنها تنين شارد من بلاد الصين وقد حط رحاله بشركة "ألوميسين "
للمنتجات الغذائية....

" تلك الشركة التي اتخذت من أحد المباني العتيقة غير بعيد عن مقرها الحالي ، نقطة الانطلاق ..كان العمل في البدء مقتصرا على بعض الآلات البسيطة ، بضع أكياس من التوابل و الخضر ، يُخلط هذا بذاك وتُمزج هاته بتلك ، ويُغلف هذا بذاك ... ، إلى أن يصل المنتوج البسيط إلى شكله النهائي..."منسمات اصطناعية " "معجون طماطم " ....أكياس وعلب توابل ، وغيرها من المنتجات الغذائية من تلك التي لاغنى عن تواجدها بالمطبخ المحلي...
بالجد والعمل الدءوب ، بسواعد الرجال والنساء ، وعبقرية "الحاج حميد" وصلت شركتنا إلى العالمية من أوسع أبوابها، فغدت أحد أقوى الماركات التجارية بشمال القارة ، بل في القارة بأسرها.....
لم يعد بمقدور السوق المحلية أن تستوعب الكم الهائل من منتوجاتنا
لذا قررنا أن نجعل تصدير منجاتنا على قائمة أولوياتنا..
ولو اتكلنا عليك وعلى أمثالك لما بارحت الشركة مقرها العتيق ، بل لصارت الآن في خبر كان... "


أكملت رئيسة المصلحة الشركة خطابها الاعتيادي دون أن تكلف نفسها عناء ترقب ردة فعله ، رافعة رأسها في شمم..
انصرفت تاركة إياه يتلمظ في حنقه وهو يضغط بقدميه الأرض تحتهما ، كأنما يدوس أعقاب كلماتها المستعرة..... لا يزال جالسا مكانه يحتسي قهوته في تذمر ، عاقدا أنامله على نحو بوحي بالنهم الفكري ، وقد استجمع شتات أعصابه ، يزفر في عنف زاويا مابين حاجبيه،
ثم مابرح أن اتسع ثغره بابتسامة جدلة...وهو ينقر لوحة المفاتيح أمامه وعيناه تلمعان ببريق غريب ، يهمهم بأنصاف كلمات لا يدرك كنهها سواه : " تبا لك أيتها العجوزة الشمطاء ، طالما تحملت ضجيجك وأدعنت لأوامرك رغم الفارق الشاسع الفكري والدراسي بيننا ، غريب أمرك ياوطن ، عجيبة أيتها الحياة بمنطقك المعاكس ، كلما ارتفع مستوى التخلف الفكري إلا وقابله رفعة في المناصب والمراتب والعكس صحيح ، ما أقسى أن تجد نفسك تحت رحمة من هم بمستوى تفكير وتحصيل السيدة "كوابيس" و رئيس الشركة البائسة ، وكلاهما لايملكان ولو شهادة الابتدائي !!


أنشأ يفرك يديه وعيناه تطالعان باهتمام ما قد لاح بين تفاصيل شاشة الحاسب أمامه ، لم يكن من الصعب عليه أن يخترق أي حاسب بالشركة مادام أنه كان عضوا ضمن الفريق التقني الذي تولى مهمة تركيب الحواسب وإيصالها بالشبكة الموحدة ، ومادار في فلك ذلك من تطبيقات ، قبل أن يتم نقله إلى المصلحة التجارية...
هاهو ذا يتصفح ملفات رئيسة المصلحة الواحد تلو الآخر ، هذا ألبوم صورها مع بعض التعديلات بالفوتوشوب للوازم "الشات "، وهذه قائمة للمواقع المختصة في الطبخ والأزياء ومستحضرات التجميل ، وهذه ملفات تحمل بعضا من خواطر وأحلام السيدة "أحلام" وقد ارتفع حاجباه مستنكراأن يكون بدواخل من هم في صلفها وقبحها مكان للخواطر والأحلام الوردية !!
في الواقع لم يكن ما يحويه حاسبها الشخصية ذا أهمية تذكر ، جاس في قرارة نفسه أنه قد أضاع وقته عبثا وألا فائدة ترجى من تصفح محتويات حاسب رئيسته الشرسة الحالمة ، هم أن ينهي عملية الاختراق ، قبل أن تلمح عيناه ملفا ما ....وقد اتخذ له اسما يشف عن خطورة فحواه: " سري للغاية"...حاول أن يفتحه في البدء لكن يبدو أنه كان محميا بكلمة سر ، الشيء الذي لم يكن ليثنيه عن استخراج مايحتويه خصوصا لخبرته الواسعة في مجال الاختراق وفك الشفرات ...

راح العرق يغمر جبينه ويبلل حاجبيه فينساب على عينيه لاذعا وهو يتفرس محتويات الملف ، كان الأمر أهول مما قد دار في خلده سلفا ، وهو يطالع تلك الرسالة المختومة بخاتمين ، أحدهما لرئيس الشركة والآخر.... لفيروس يحمل صفة دولة ويتخذ من نجمة داوود رمزا له...
بعد دقائق معدودة من سبر أغوار ذلك الملف الالكتروني ، تراجع في عنف بمقعده المتحرك وجحظت عيناه وهو يحاول استيعاب ما وقعت عليه عيناه ...لكن ابتسامة واسعة تجلت بين شفتيه وهو يقبض كلتا يديه في ظفر ، ثم شرع يعبث بالقلم وهو مطرقٌ للحظات يفكر فيما يجمل به القيام به....

انتهى الجزء الأول بحمد الله
انتزع تلك المشنقة التي يسمونها ربطة العنق ، ثم جلس قبالة حاسبه الشخصي بغرفته ذات الإضاءة الشاحبة ، وهو يحدق مليا في ذلك الملف المفعم بالتفاصيل المهولة ، والغامضة في الحد ذاته !!
رمى بجسده فوق الأريكة ، متنفسا في عمق وقد أسبل جفنيه مستغرقا في تفكير عميق....
أ"أن تبخس موظفيك وعمالك حقوقهم ، أن تمجد هذا وتشتم ذاك ، أن ترفع هذا وتحقر ذلك ، أن تنهب وتزور وترمي بالبهتان وأن تعيث في الارض فسادا ، هي أمور ربما غدت في حكم المألوف ، وقد نتقبلها على مضض رغم دونيتها ودونية المتجاسر عليها ،
، لكن أن يصل بك الأمر حد وضع اليد في يد أعداء الأمة ، وإبرام تحالفات شيطانية مع كيان وهمي شيطاني ، بغرض الاغتناء السريع وركوب صهوة مجد وهمي ، مهما كانت العواقب ، لمدلهمة تخرس الألسن دون التفوه بها .... ألا سحقا لرحم أنجبت من هم في قذارة أولئك الأوغاد "
أتم "عصام" همهماته المستعرة ، وهو يهب من مقامه وعيناه تشفان عما لم يصرح به لسانه ،
وقد استخرج نسخة من الخطاب الملغوم ، ثم دسها في ملف أصفر أنيق...وصفق الباب وراءه ، منطلقا كسهم ناري ، فوق دراجته
......النارية
الطريق الممتدة تتلوى أمامه ، الريح الهادرة تلكز تفاصيل وجهه
.......وحدقتاه مثبتتان في المجهول

تناول المفتش "عماد" الملف الملف في ارتياب ، ثم طفق يتفرس محتوياته وقد ضاقت عيناه ، وبرزت عروق في جبينه ، وهو ينقل عيناه بين الوثيقة أمامه والشاب الواجم الماثل بين يديه... ثم همس بنبرة غامضة :
"سبق لي أن خضت غمار عشرات القضايا المعقدة ، وقابلت مئات المجرمين والخارجين عن القانون ، ولم أصادف قضية خطيرة كهذه ، بما اشتملت عليه من جنح الخيانة العظمى ، والإضرار بصحة وسلامة ألوف المواطنين ممن وثقوا بهذه الشركة النجسة ، لا أدري حقا من أي طينة هم؟؟
لكن تأكد يا بني أنهم لن ينجوا بفعلتهم الدنيئة هاته ، لأضربن بيد من حديد كل من سولت له نفسه التلاعب بأرواح المواطنين ، ولأجعلن "صروحهم الوهمية ركاما فوق رءوسهم
تنفس "عصام" في عمق بعدما سمعه من حديث أقرب إلى الخطابات الحماسية الثورية منه إلى حديث مفتش ضمن غياهب مهنة المتاعب ، شاكرا إياه ، وقد تسربت الطمأنينة إلى دواخله فنقعت ما غمره من خوف وتردد سلفا ، وهو يعود أدراجه على متن دراجته النارية ، وقد استحالت بساطا سحريا بين سحائب سكينة نفسه ، واضمحلال ما كدرها قبيل تسليمه الملف السري ، ثمرة اختراقه لحاسوب رئيسته الشرسة "

كانت السماء متجهمة يغشاها لون الرماد ،
وقد برزت من خصاص غمائمها خيوط ذهبية خافتة ، وحفيف الشجر الممتد على طول الشارع الذي يفصله عن عمله ، في مستهل يوم جديد ، يأبى إلى أن يشحذ هواجسه وقد راودته خواطر سوداوية وعيناه ترقبان شيئا ما... قادما من عمق فيافي المجهول ......
على حين غرة ، وفي غفلة من ضجيج الحواس ، وجد نفسه وكأنما حملته زوبعة عاتية لترميه ودراجته النارية بعيدا على الرصيف ، وقد تخضب جبينه دما ...
الظلام يبدأ من مركز الرؤية ثم ينتشر كبقعة حبر
ثم يعقبه الانتقال من عالم الوعي إلى عالم اللاوعي ...
!!!أو لربما إلى عالم الفناء ،

"من حسن حظه أنه تمكن من تجنب الاصطدام المباشر مع تلك السيارة التي برزت من طريق فرعية بغثة على مايبدو ، فكان ما كان ... وحمدا لله أن أصابته لا تدعو للقلق ، مجرد جروح سطحية وردود بسيطة ...سيكون بخير بإذن الله "
نطقتها الممرضة بنبرة وادعة وهي تناول التقرير للمفتش "عماد " الذي بدت ملامحه متحجرة ، وهو يغمغم عاقدا حاجبيه : " حسنا ، وكم سيستغرق مكوثه هنا "؟
......ثلاث أيام ، أو لربما أقل ....فإصابته ليست -.
... حسنا ، شكرا -
قاطعها المفتش ، منصرفا ، دون أن يبدي اهتماما بباقي تفاصيل حديثها ، وهو يدلف إلى غرفة "عصام " ناشدا أن يستقي منه تفاصيل الحادث دقها وجلها ....
لحسن حظك أن الس......س..... "-
شهق المفتش "عماد" وهو يرمق ظل شخص يقفز عبر النافذة المشرفة على حديقة المشفى ،
بغريزته المهنية ركض وراء الظل ، لكنه تلاشى عبر متاهات الحديقة المجاورة...
أمسك ذؤابة راسه بكلتا يديه وهو يزمجر بأنصاف كلمات قبل أن
ينتبه أنه أغفل شيئا ما ،
عاد مسرعا إلى غرفة "عصام " وأنفاسه تتلاحق في صخب
لربما.......ا ......
ثم أطلق زمجرة مدوية من عمق فيه :
"اللعنة ........ة ...." !!
تفحصه مليا بعينيه الواسعتين ثم تنحنح مبتسما وهو يربت على كتفي "عصام " : - يبدو أن دفاعات جسمك تعمل بكفاءة منقطعة النظير ، لقد تعافيت بسرعة حمدا لله على سلامتك - لولا أنك دلفت في الوقت المناسب لصرت الآن .... قاطعه المفتش ، مشيحا بيديه ، مردفا : - كل شيء بقدر ... يبدو أن عمرك الافتراضي أطول مما يتصوره أولئك الأوباش ... ( ثم دنا منه أكثر عاقدا جاجبيه ) - حسنا خبرني عن النسخة الأصلية للملف ، هل أرسلتها إلى بريدي الشخصي كما طلبت منك ذلك آنفا ؟ - بالطبع ، حضرة المفتش ..وقد أرفقتها ببعض التفاصيل الإضافية ، بعض اختراقي مجددا لحاسوب ثانوي ، كان يستخدمه مدير الشركة كلما تعلق الأمر بعملياته المشبوهة بالتنسيق مع مديرة الإنتاج " أحلام " رفع المفتش "عماد" حاجبيه فاغرا فاه مهمهما : - رائع جدا يا عصام ، رغم أن الأمر مخالف للأعراف والقوانين ، إلا أنك استطعت أن تجعل من الاختراق وسيلة نبيلة لكشف لعبتهم القذرة ، تماما كمن جعل من مطرح النفايات حديقة غنّاء ينتشي بعبقها القاصي والداني ... - ( ابتسم "عصام" في وداعة هامسا ) : مطرح نفايات و حديقة غنّاء ... يالها من تشبيهات قلما جادت بمثلها أنامل الأدباء... أطلق المفتش ضحكة مكبوتة وهو ينصرف قائلا : - موعدنا غذا بإذن الله ولا تنسى ...، أقولها صدقا وتضج بها الأعماق ... أريد أن أتعلم منك بعض أبجديات الاختراق ....
 - في ماذا سيفيدك ذلك يا حضرة المفتش؟ - سأخبرك فيما بعد.... المهم ألا ينتبه أحد لاقتحامك لمنزل " عصام" في غيابه... - وماذا عن حاسوب الشركة ؟ - لا عليك يا " سعد "... سيتكلف تقنيوا الشركة ب.... بتر المفتش عبارته ، محاولا أن يغير مجرى الحديث ، وهو يتنحنح مستطردا : - حسنا ، ثمة أمور خفية في القضية سنناقشها في ما بعد ، المهم أن نحاول جهد الإمكان طي هذه القضية في أقرب الآجال .... ( ثم استطرد حادجا مساعده بنبرة صارمة ) .... في أقرب الآجل ... و قبل قدوم السيد مدير الأمن بالمنطقة ..... تطلع إليه مساعده ، مقطبا جبينه وكأنه يحاول استيعاب مايدور بدهنه ، هامسا بصوت خفيض : - حاضر حضرة المفتش ، سأتفحص حاسوبه جيدا ، ولن تفلت مني شاردة أو واردة ، أعدك بذلك تنفس المفتش بعمق وهو يلوح بسلسلة مفاتيح بيده هامسا : على بركة الله ... ****
انتهى الجزء الثالث
|