السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة عاطرة تليق بجمال حضوركم، وإشراقة أقلامكم، وصفاء نواياكم، ودفء كلماتكم، وإلى كلّ من يمرّ من هنا، أحيّيكم بتحيةٍ تليق بعلوّ قدركم وسموّ ذوقكم، وأبعثها إليكم محمّلةً بالتقدير والاحترام، مقرونةً بالشكر والامتنان لكلّ فرد في هذا الصرح المبارك، إدارةً وأعضاءً ومشرفين، فقد غدوتم لأرواحنا عائلة، ولأقلامنا نِبراسًا، ولخواطرنا مرفأً آمِنًا تلوذ به الكلمات حين تضيع بين الزحام...

حديثنا اليوم، أيها الكرام، عن مقامٍ لا يبلغ شأوه إلا من خَبِرَ الحياة وعاشها بصدق، وفهم النفوس وأسرارها، وسار في دروب الفكر والأخلاق معًا. حديثنا عن القيادة… تلك الكلمة الثقيلة في معناها، الرفيعة في مقامها، الدقيقة في تفاصيلها، والعميقة في أبعادها. القيادة التي يتوهّمها البعض منصبًا أو سلطة، بينما هي في حقيقتها مدرسة في الذوق، ومنارة في الأدب، ومِرآة في الأخلاق.

فالقيادة ليست سلطة تفرض، ولا أوامر تُلقى، ولا كراسي تُحتلّ، بل هي فنٌّ راقٍ يتقنه من صقل روحه قبل سيفه، وارتقى بأخلاقه قبل أن يرفع صوته، وفهم الناس قبل أن يطلب منهم الفهم. هي ذوقٌ في التعامل، وحنكة في الإدارة، ورفقٌ في التوجيه، وبعدُ نظرٍ في القرار، وعدالةٌ لا تساوم، ورحمة لا تتصنّع، وقوّة لا تتجبّر. هي مجدٌ لا يُصاغ إلا بمعدن النبلاء، ولا يُشاد إلا بأخلاق العظماء، ولا يُصان إلا بحكمة العقلاء.

أيّها السادة، إنّ القيادة الحقّة لا تَعرف الغِلظة، ولا تَقبل التجبّر، ولا تستسيغ الانفعال، بل تُنبت في رحمها الرحمة، وتُروى بالصدق، وتُزهر بالعدل، وتُثمر الولاء. هي نسقٌ من المبادئ والقيم يسير عليه القائد الحقيقي، قبل أن يسير عليه من يتبعه، فالقائد القدوة لا يقول: "افعلوا"، بل يُلهمهم بفعلِه، ولا يأمرهم بأن يُبدعوا، بل يَفتح لهم الطريق بإبداعه. فهو أوّل من يصل، وآخر من يغادر، لا يرى الكرامة في المنصب، بل يراها في السعي، لا يتفاخر بالسُلطة، بل يتواضع بها، ولا ينفخ ذاته في مرآة الإنجاز، بل يعكس الصورة على فريقه.

القائد الذكي لا يبحث عن الطاعة، بل عن الاحترام، ولا يسعى للهيمنة، بل إلى الثقة، ولا يروّج لنفسه كمنقذ، بل يصنع من كل فردٍ بطلًا في ميدانه. إنه يرى في كلّ موظفٍ جوهرةً تحتاج إلى صقل، وفي كلّ صوتٍ مغمورٍ نغمة تستحق أن تُسمع، وفي كلّ خطأٍ فرصة للنمو، لا أداة للتقريع.

ويا لها من فاجعة أن نرى في زماننا من تزيّن بلباس القيادة مظهرًا، بينما فقد روحها مضمونًا، فأصبح المتسلّط يُحسب قائدًا، والمُرعب يُدعى حازمًا، والمُتملق يُكرّم على أنه حكيم، والمُبدع يُقصى لأنه خرج عن الصفّ.

إنّ من لا يمتلك فنّ الإصغاء لا يصلح أن يكون قائدًا، ومن لا يُجيد الإصلاح باللّين لا يفلح في حمل الأمانة، ومن لا يُحسن الظنّ بمن يقودهم، فكيف له أن يستخرج من أعماقهم أجمل ما فيهم؟ القائد لا يُشعل نارًا تحت الضعفاء، بل يُوقد مصباحًا على طريقهم، ولا يُفرّق ليستأثر، بل يجمع ليُثمّر، ولا يجلد الناس باسم الانضباط، بل يُنظّمهم بالحبّ والاحترام.

وما أكثر ما رأينا مؤسسات تتهاوى رغم مواردها، لأنها افتقرت إلى قائد يتّقي الله في من معه، ويُحسن الحديث، ويُتقن التقدير، ويُبصر القيمة في كلّ موظف مهما صغر دوره. فالقيادة ليست أن تُنجز العمل، بل أن تُنجز القلوب، أن تبني الثقة قبل أن تبني الأرقام، وأن تُحيي الحافز قبل أن تُقيّم الأداء.

القيادة أخلاق، ومَن جُبل على الأخلاق استطاع أن يُدير فريقًا بوجهٍ مبتسم، وصدرٍ واسع، وقرارٍ موزون. فكم من قائدٍ ارتقى بقومه فارتقوا، وكم من مسؤولٍ سقط بهم فهلكوا. إنّ التاريخ لا يذكر الكراسي، بل يذكر من جلسوا عليها وما فعلوه بها. والتاريخ لا يخلّد المناصب، بل يخلّد الأثر، ولا يرفع من رفع صوته، بل من رفع من معه.

ويا له من شرفٍ عظيم، أن تكون قائدًا يُذكر بالخير، لا بالرهبة، يُدعى في غيابه قبل حضوره، ويُشتاق إليه لأنه لم يكن مجرد صاحب قرار، بل صاحب قلب وإنسان. ويا لها من خسارة، أن تكون حاضرًا كالغائب، تسكن مكتبًا لا القلوب، وتبني حواجز من التعليمات، لا جسورًا من الفهم.

أيّها الأحبة، إنّنا لا نطلب في قادتنا العصمة، ولكن نرجو الحكمة، لا نطلب منهم أن يكونوا معصومين، ولكن أن يكونوا متواضعين، لا نُريدهم من سلالة الأنبياء، ولكن من معدن الشرفاء. نرجو فيهم بُعد النظر، وصدق المشاعر، ورفق الكلمة، وعدالة السلوك. نرجوهم أن يُدركوا أنّ من يقود بشرًا، فهو مسؤول عن أرواح لا عن ملفات، وعن مستقبل لا عن ميزانية، وعن طموحات لا عن تقارير فقط.

فليت كلّ من اعتلى منصبًا أدرك أنّ القيادة ليست صعودًا على الأكتاف، بل رفعة للنفوس، وليتهم فهموا أن القائد الحقيقي لا ينتظر التصفيق، بل يصنع الإنجاز في صمت، ويترك أثره في كل قلب، قبل أن يُوقّع قراراته بالحبر.

وفي الختام، لا يسعني إلا أن أرفع القبعة إجلالًا لكل قائدٍ جمع بين الحزم والعدل، بين الذوق والأخلاق، بين الشجاعة والحنان. واسمحوا لي أن أخصّ بالشكر إدارة هذا المنتدى الكريم، لما تتيحه لنا من فضاء فكري راقٍ، ومساحة للتعبير عن القيم والمبادئ التي نؤمن بها ونحلم أن تسود في كل بيئة عمل وكل ميدان حياة.

تحياتي / إحساس غالي

#فن_القيادة #الذوق_في_الإدارة #أخلاقيات_القائد #القيادة_الواعية

#القيادة_الملهمة #بناء_الثقة #قائد_بفكر_نظيف

#القيادة_روح_لا_منصب #الإدارة_الإنسانية