السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة مباركة للأعضاء الكرام، مشرفين ومراقبين وروّاد هذا الصرح العلمي المضيء، وبعد...
في زمن كثرت فيه الشبهات وتشعّبت فيه المناهج، تبقى العقيدة الصحيحة النابعة من نور الوحي وبيان العلماء الربانيين هي الحصن الحصين للمؤمن الواعي، والميزان الدقيق الذي يُفرّق به بين الغث والسمين، وبين الحق والباطل. ومن بين تلك اللآلئ المضيئة التي اعتنت بعرض العقيدة الإسلامية عرضًا متينًا، قائمًا على نصوص الكتاب والسنة، محكمًا بمنهج أهل السنّة والجماعة، تأتي العقيدة الطحاوية للإمام الجليل أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي – رحمه الله – والتي ما زالت تُدرّس ويُشرح مضمونها على مرّ العصور، لما فيها من إحاطة بجوانب الإيمان، وتفصيلات دقيقة في أبواب التوحيد والنبوات والغيبيات، بأسلوب سَلِس جامع.
وفي هذا السياق النوراني، نستكمل اليوم معكم ـــ بكل حب وامتنان ـــ وقفات تأملية وعلمية مع الدرس الخامس والعشرين من سلسلة "شرح العقيدة الطحاوية في أصول الدين"، بصوت وفكر العلامة الشيخ الدكتور سعيد فودة حفظه الله، الذي لطالما زخرت محاضراته بحِكمٍ مشرقة، وتحقيقات نفيسة، تدل على رُسوخ قدمٍ في العلوم النقلية والعقلية، ووفاءٍ بالغ للتراث الكلامي لأهل السنّة.
لقد أتى الدرس الخامس والعشرون في سلسلة الشيخ الجليلة استكمالًا لمباحث عظيمة في توحيد الألوهية والربوبية، ولقد جاء تركيز الشيخ في هذا الدرس ـــ كما تعوّدنا منه ـــ محيطًا بجوانب التحليل والتفنيد، والرد على شبهات المغالين والمفرّطين، من خلال فهم دقيق لمقاصد الإمام الطحاوي، وبيان أصول أهل السنّة في هذا الباب.
ففي هذا الدرس، سلط الشيخ سعيد فودة الضوء على بعض العبارات الجوهرية في العقيدة الطحاوية، التي تؤسس لمفهوم التنزيه المطلق لله تعالى، ومنها قول الإمام الطحاوي: "تعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء، والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات". وهي عبارة كثيفة بالدلالات، إذ تهدم من أساسه كل فكر جسمي أو تجسيمي، وكل ميل نحو التشبيه أو التكييف. فقد أراد الإمام الطحاوي أن يقرّر ما اتفقت عليه كلمة أهل الحق، من أن الله سبحانه وتعالى منزّه عن الزمان والمكان، وعن الحدود والاتصال والانفصال، وأنه لا تُدركه الأبصار، ولا تحيط به الأفكار.
وقد حرص الشيخ حفظه الله على شرح هذه العبارات بأسلوب يجمع بين الدقة العلمية والبُعد التربوي، مبيّنًا أن التنزيه هنا ليس نفيًا وجوديًا، بل هو إثبات كمال لله سبحانه، ونفي كل ما يُنقص من شأنه. فالله سبحانه وتعالى واجب الوجود، ليس كمثله شيء، وهو فوق ما يصفه الواصفون، ولا تحكمه خواص الأجسام أو صفات المخلوقات.
وفي تعقيبه على عبارة "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات"، نبّه الشيخ إلى خطورة الظن بأن الله تعالى في جهة، سواء كانت جهة العلو أو غيرها، لأن ذلك يعود بنا إلى أوهام الحِسّ ومحدودية البشر، والله منزّه عن ذلك. فالعقل السليم، والنقل الصريح، يرفضان حصر الخالق العظيم في قيود الزمان والمكان، لأن هذه القيود من لوازم المخلوق المحدود، ولا تُناسب الكمال الإلهي المطلق.
وتجلّت براعة الشيخ في ربط هذه المفاهيم العقدية بالقواعد الكلامية العقلية، مبينًا أن قولنا بنفي الجهة لا يعني إنكار علو الله تعالى في المعنى اللائق بجلاله، ففرقٌ بين علو المكان، وعلو القهر والشرف والقدرة. ومن هنا، رفض الشيخ التناقض الذي وقع فيه بعض الحرفيين، الذين أرادوا إثبات العلو بمفهوم حسي، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك يوقعهم في شرك التجسيم، ويتعارض مع قاعدة "ليس كمثله شيء".
وقد أسهب الشيخ في عرض أقوال السلف في هذا الباب، فذكر ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله، حين سُئل عن الاستواء، فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب"، وهو من أجمل ما قيل في باب التفويض المحمود، الذي لا يعني تعطيل المعنى، بل إثباته دون تكييف أو تمثيل.
وتحدث الشيخ كذلك عن أثر هذه المفاهيم في تربية المسلم، فالعقيدة التي تنزّه الله سبحانه وتعالى، وتجعله فوق التصورات والخيالات، تزرع في القلب خشيةً وتعظيمًا، وتمنع الإنسان من الوقوع في الزلل العقدي. فكم من الأهواء نشأت من سوء الفهم في صفات الله تعالى، وكم من فرق ضلّت لأنها أرادت أن تُخضع الإلهي للمحدود، أو تَفر من إثبات الصفات بالوقوع في التعطيل.
ولم يغفل الشيخ عن الردّ على الذين يظنون أن نفي الجهة أو الجسمية ينقص من مقام الله تعالى، بل بيّن أن التنزيه الكامل يزيد من عظمة الله في القلوب، لأن الكمال المطلق لا يُحاط به. وهذا من كمال الإيمان، أن نُسلم لما جاء في الوحي، مع احترام العقول، ولكن دون تسليطها على النصوص بما يخالف مقاصدها.
وختم الشيخ درسه بوقفة إيمانية تُلخّص روح العقيدة الطحاوية: أن معرفة الله تبدأ من التسليم لعظمته، والوقوف عند حدوده، وتنزيهه عمّا لا يليق به، وأن المبالغة في التأويل كما أن التفريط في الفهم، كلاهما يخرجان بالمرء عن جادة الصواب، وأن العقيدة السليمة هي التي توازن بين النقل والعقل، وتُعلّمنا كيف نؤمن دون أن نُجسّم، وكيف نُعظّم دون أن نُشبه.
إن درس الشيخ سعيد فودة الخامس والعشرين في شرح العقيدة الطحاوية هو لبنة مباركة في بناء الوعي العقدي، ونافذة على عمق التراث الكلامي السني، وإسهام جليل في صون الهوية الإيمانية من التشويش والاضطراب. وهي دعوة لأن نعيد قراءة العقيدة الطحاوية بعين التأمل، وأن ننهل من معين العلماء، ونحفظ لهم فضلهم، ونُبقي شعلة العلم مضيئة، في عالم بات يحتاج إلى نور العقيدة الصافية أكثر من أي وقت مضى.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أعبّر عن خالص الشكر والتقدير لإدارة هذا الموقع المبارك، وإلى الإخوة الكرام القائمين عليه، على إتاحتهم لهذا الفضاء العلمي النقي، الذي يُقدّر الكلمة، ويرفع من شأن الفكر والعقيدة. وبارك الله في الشيخ الدكتور سعيد فودة، وفي كل من يحيي علم أهل السنّة والجماعة، ويُبقيه حيًا في صدور الأمة.
تحياتي / إحساس غالي
