الحمد لله العليم الحكيم العزيز الغفار، القهَّار الذي لا تَخفى معرفته على مَن نظر في بدائع مملكته بعين الاعتبار، القدُّوس الصمد المتعالي عن مشابهة الأغيار، الغني عن جميع الموجودات، فلا تحويه الجهات والأقطار، الكبير الذي تحيَّرت العقول في وصف كبريائه، فلا تُحيط به الأفكار، الواحد الأحد المنفرد بالخلق والاختيار، الحي العليم الذي تساوى في علمه الجهر والإسرار، السميع البصير الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.
إن الصلاة على المختار إن ذُكرت
في مجلس فاح منه الطيبُ إذ نفَحا
محمد أحمد المختار من مُضر
أزكى الخلائق جمعًا أفصحُ الفُصَحا
صلى عليه إلهُ العرش ثم على
أهليه والصَّحب نعمَ السادةُ النُّصَحا
وعلى آله وأصحابه ومَن سار على نهجه، وتَمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
وهذه شهادة ضمان يقدِّمها لنا خليلُ الرحمن عليه أفضل الصلاة والسلام، ويرسل بها عمَّ سيد ولد عدنان عليه الصلاة وأزكى السلام، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقيتُ إبراهيم ليلة أُسري بي، فقال يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبةُ الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر [1].
قوله: (لقيت إبراهيم)؛ أي: الخليل عليه الصلاة والسلام ليلة أُسري بي، قال القارئ بالإضافة، وفي نسخة يعني من المشكاة بتنوين ليلة؛ أي: ليلة أسري فيها بي، وهي ليلة المعراج، (فقال) أي إبراهيم وهو في محله من السماء السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، أقرئ أمر من الإقراء، أو من قرأ يقرأ أمتك مني السلام؛ أي بلِّغهم مني السلام، طيبة التربة بضم الفوقية وسكون الراء هي التراب من قرابها المسك والزعفران، ولا أطيب منهما عذبة الماء؛ أي: ماؤها طيب لا ملوحة فيه، وأنها بالفتح ويكسر؛ أي الجنة قيعان بكسر القاف جمع قاع، وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر، وأن بالوجهين غراسها بكسر الغين المعجمة جمع غرس بالفتح، وهو ما يُغرس؛ أي: يستره تراب الأرض من نحو البذر لينبت بعد ذلك.
وإذا كانت تلك التربة طيبة وماؤها عذبًا، كان الغراس أطيب، ولا سيما والغرس الكلمات الطيبات، وهنَّ الباقيات الصالحات، والمعنى أعلمهم بأن هذه الكلمات ونحوها سببٌ لدخول قائلها الجنة، ولكثرة الأشجار منزلة فيها؛ لأنه كلما كرَّرها نبت له أشجار بعددها.
وقال الطيبي: في هذا الحديث إشكال؛ لأنه يدل على أن أرض الجنة خالية عن الأشجار والقصور، ويدل قوله تعالى: ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البقرة: 25]، على أنها غير خالية عنها؛ لأنها إنما سُميت جنة لأشجارها المتكاثفة المظلة بالتفاف أغصانها، والجواب أنها كانت قيعانًا، ثم إن الله تعالى أوجَد بفضله فيها أشجارًا وقصورًا بحسب أعمال العاملين لكل عاملٍ ما يختص به، بسبب عمله، ثم إنه تعالى لما يسَّره لما خُلق له من العمل لينال بذلك الثواب، جعله كالغارس لتلك الأشجار مجازًا إطلاقًا للسبب على المسبب؛ انتهى.
قال القارئ: وأُجيب أيضًا بأنه لا دلالة في الحديث على الخلو الكلي من الأشجار والقصور؛ لأن معنى كونها قيعانًا أن أكثرها مغروس، وما عداه منها أمكنة واسعة بلا غرس؛ لينغرس بتلك الكلمات ويتميَّز غرسها الأصلي الذي بلا سببٍ، وغرسها المسبب عن تلك الكلمات؛ انتهى [2].
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ به وهو يغرس غرسًا: فقال: يا أبا هريرة، ما الذي تغرس؟ قلت غراسًا لي: قال: (ألا أدلك على غراس خير لك من هذا؟ قال بلى، يا رسول الله: قال: (قل: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، يُغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة) [3].
عن جابر: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة [4].
"قال بعض العلماء: إن ملائكة موكلين ببناء دُور أهل الجنة يبنونها ويهيِّؤونها، البناء لبنٌ، لكنه ليس من الطين، لبنة ذهب ولبنة فضة، والملاط بينهما المسك، المادة التي تُجعل في الدنيا بين كل طوبة وأخرى في الدنيا، هي إما أن يكون الطين في القديم، أو الإسمنت في الحديث، ولكن في الجنة الطوب ذهب وفضة، والملاط الذي بينهما من مادة الطيب، ملاطها المسك، وهكذا الجنة تُزرع بهذه الأشجار بحسب ما يكون في الدنيا من عمل العبد.
إن الملائكة تَبني دُور أهل الجنة بحسب ما يكون من الذكر والعمل الصالح لأهلها في الدنيا، فإذا ذكروا الله نَشِطوا في البناء، وإذا كَلَّ أهلُ العمل توقَّف الملائكة عن البناء، وهذا سرُّ تفاوُتِ أهل الجنة في منازلهم ودُورهم في جنات النعيم، إن بينهم من التفاوت كما يكون من رؤية الناس إلى الكوكب الدري والنجم الغابر في السماء، فيقال: هذا قصر فلان في أعالي الجنة؛ لأن الجنة مُقبَّبة، وأعلاها أشرفها وأفضلها، وبين الدرجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أو كمسيرة مائة عام، والناس يتفاوتون في جنات النعيم.
ولذا فإن أهل الفردوس الأعلى - الذي سقفه عرش الرحمن جل وعلا - هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، هكذا بشَّر وأخبر نبي الرحمن وخليله إبراهيم، ونقل وبشَّر وحثَّ خليل الرحمن ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فليستقل كل امرئ أو ليستكثر، فهذا هو ميدان العمل، وهذا وقت الغراس، فقد أفلح وأنجح من عَرَشَ جنَّته وبناها، وقد خسِر مَن تَرَك هذا العمل؛ ليرجع بالكرَّة الخاسرة عياذًا بالله من ذلك: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ [المدثر: 38][5].
[1] أخرجه الترمذي ح 3462 وقال الشيخ الألباني: (حسن)؛ انظر حديث رقم: 5152 في صحيح الجامع.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تسلــم الأيــــادي على الإنتقـــاء المميز والقيـــم
وبارك الله فيك على الطرح الرائـع وجزاك الله خيرا
لمـــا تقدمــــه من مجهــــودات طيبـــة .
واصل تميــــزك وتألقـــك ، في إنتظــــار جديـــدك
تحيـــــــاتي.