مجتمعنا هل يعاني من أزمة تربية ثقافية عارية؟
د .علي الخشيبان
المجتمع اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة بناء أهدافه ودراسة قيمه ومعاييره بشكل حديث، لأن ما استهلكناه في التنمية الثقافية والاجتماعية لم يكن كبيراً في مقابل استهلاكنا في التنمية المحسوسة والبنية التحتية لكي نتمكن من بناء قيم ومعايير متصلة مع بعضها،
بين القيم والمعايير يبرز دور التربية في إيصال وترسيخ القيم والمعايير الصحيحة المتوافقة مع المجتمع، وكما يقول علم الاجتماع فإن القيم هي " منظومة الأفكار التي تحدد ما هو مهم ومحبذ ومرغوب في المجتمع" أما المعايير فهي" قواعد السلوك التي تعكس أو تجسد القيم في ثقافة ما"، السؤال الذي يطرح اليوم يحوم حول قدرة قيمنا ومعاييرنا على الصمود وفقا لأدواتها التقليدية والقديمة في مقابل ضرورة إعادة صياغة وبناء قيم متكيفة مع واقعنا الاجتماعي المتجدد.
المفهوم المتداول لثقافتنا اليوم يوحى ببداية أزمة في مواجهة القيم والمعايير الحديثة التي تصنعها فئات الشباب وهذا ما يجعلنا نطرح تساؤلًا مهماً حول الأهداف الرئيسة التي يجب أن نحددها للمجتمع بهدف تحسين عمل القيم والمعايير المجتمعية بطريقة تجعلها قادرة على مساعدة المجتمع من اجل تجاوز مشكلاته المجتمعية والاقتصادية.
لذلك فهل نحن اليوم أمام تربية عارية، ليس بسبب سوئها ولكن بسبب طريقة أدائها؟ وهذا يعني أننا أمام فشل في سياساتنا التربوية القادرة على تحديد الأهداف التي نريدها من المجتمع، وهل حان الوقت لإعادة بناء القيم والمعايير وفقا لمتطلبات المرحلة التي نعيشها..؟
ترسيخ المثالية في الصورة التربوية في أي مجتمع، وفرض فكرة الخصوصية والتغني بالقيم والمثاليات وعدم القدرة على بناء نماذج قيمية ومعايير تتكيف مع مصطلح الزمان والمكان هو ما يخلق الازدواجية الشخصية على مستوى الأفراد والمجتمع والسبب يكمن في بروز فكرة التناقض بين القيم والمعايير.
في العام 2000 م نشرت إحدى اللجان المعنية في اليابان تقريرا أوضحت فيه المعالم الرئيسة والأهداف التي يجب أن تسعى الحكومة اليابانية إلى تحقيقها، وعلى اثر ذلك طالب رئيس وزراء اليابان بتشكيل لجنة لدراسة هذا التقرير. وقد كانت نتائج هذه الدراسة مفاجئة إلى درجة كبيرة حيث دعت الدراسة إلى إعادة النظر في بعض القيم الأساسية في الثقافة اليابانية من اجل العمل على تجاوز المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
وكما نعلم جميعا فإن الثقافة اليابانية ثقافة صارمة وتصل إلى درجة المثالية في الكثير من القضايا، لهذا فإن ما قصدته من هذا المثال حول اليابان هو مدخل حديثي عن خطر مواجهة التغييرات التي تحدث في المجتمع وتحدث في العالم من حولنا بثقافة أو لنقل بتربية عارية.
لتوضيح هذه الصورة أكثر أقول إن إطفاء الحرائق ليس كله بالماء فبعض الحرائق لايمكن أن نطفئها بالماء بل إن الماء يزيدها اشتعالاً، وهذه حقيقة فيزيائية ثابتة، لهذا فالتربية العارية التي أعنيها هنا ليست تربية منزوعة القيم بل هي نوع مركز من القيم وليس المعايير، ولكن لأنها قيم مثالية وغير قابلة للتطبيق ومتكلفة في أحيان كثيرة فإنها تختفي وينقطع اتصالها بالمعايير التي تمثل السلوك الفردي، لذلك تأتي فكرة الازدواجية في السلوك الفردي. وهذا ناتج بشكل طبيعي عن عدم قدرة القيم من المرور عبر أنابيب المعايير المجتمعية التي تحولها إلى سلوك فردي يستطيع الفرد من خلاله التكيف - قيمياً ومعيارياً- مع واقع المجتمع.
المجتمعات التي تواجه تحولات الحياة بثقافة عارية غير محمية بتغيرات ثقافية قادرة على إعادة تكييف القيم مع متطلبات الحياة، هذه المجتمعات سوف تعاني من هوة كبيرة بين القيم والمعايير (النفاق السلوكي) وهذا يعني أن صورة القيم المجتمعية في الخطاب التربوي والإعلامي والاجتماعي والفردي متناقضة مع صورة المعايير التي تعبر عن سلوك المجتمع وأفراده عن الواقع.
في الدراسة اليابانية التي دعت نتائجها المجتمع الياباني إلى ضرورة التنازل عن قيم محددة في المجتمع الياباني من اجل إنقاذ المجتمع الياباني وجعله يواجه القرن الحادي والعشرين بقيم ومعايير مختلفة وقادرة على تخفيف أزمات المجتمع هناك، عندما خرجت النتيجة فوجئ الكثير من حملة ضد هذه الدراسة وأنها عملية سوف تخرب المجتمع الياباني وسوف يكون لها آثار سيئة.
هذه النتيجة بالنسبة لي بشكل خاص ومن خبرة في مجتمعاتنا ذات الإطار المجتمعي المماثل تثبت أنه كلما كانت المثالية صارمة في القيم المفروضة كانت المعايير والسلوكيات المجتمعية هشة وقابلة للانكسار والتجاوز.
مجتمعاتنا اليوم بحاجة إلى إعادة النظر في القيم المجتمعية والثقافية وليس العقدية حتى لا تخرج القضية عن مسارها، كما أنه يجب الفصل بين ما هو مرتبط بالعادات والتقاليد، وبين ما هو مرتبط بالعقائد لان التداخل بين الديني والاجتماعي قضية كبيرة ولها اثر على سلوك المجتمع.
وحتى لا يواجه المجتمع وأفراده التحولات العالمية وتقنيات التواصل الاجتماعي بأزمة ثقافية فلابد من الاعتراف بحقيقة مهمة وهي أن القيم التي تكسو الجسد الثقافي في المجتمع لم تعد قادرة على حمايته من عوامل الطبيعة من تغيرات وتطورات تقنية وسياسية واجتماعية لذلك يصبح من الواجب إعادة حياكة تلك القيم والتنازل عن الكثير منها ليس لصالح الفوضى القيمية ولكن من اجل تطوير معايير السلوك الاجتماعي، والوصول إلى اعلى درجة من التوافق بين القيم والمعايير وفقا لتعريفات القيم والمعايير.
الحياة الاجتماعية لم تعد محكومة بالجغرافيا أو التاريخ ولكنها أصبحت جزءاً من العالم المحيط وانفتاح المجتمع أو الأفراد على ذلك العالم لم يعد قراراً لأحد بل أصبح قرارا فرديا بحتا ولا يستطيع احد رده، وأصبح من السهل أن يصل الفرد إلى مفهوم منفصل عن المجتمع بالقيم والمعايير التي يرغب بها ويتعاطاها بشكل خاص.
الصراع الاجتماعي الذي يتخذ من القيم مادة له ويضفي عليها إما صبغة عقدية أو صبغة سياسية من اجل توفير الحماية لها وإثباتها مجتمعياً إنما هو صراع خطير سيكون طافياً على سطح المجتمع بينما سوف نجد المجتمع والأفراد يعزلون أنفسهم بشكل تدريجي عن هذا الصراع حيث يبنون لهم ثقافتهم الخاصة التي لن تنتظر كثيرا حتى تتجاوز ذلك السطح وصراعاته.
المجتمع اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة بناء أهدافه ودراسة قيمه ومعاييره بشكل حديث، لأن ما استهلكناه في التنمية الثقافية والاجتماعية لم يكن كبيراً في مقابل استهلاكنا في التنمية المحسوسة والبنية التحتية لكي نتمكن من بناء قيم ومعايير متصلة مع بعضها، ولا تعاني من هوة سلوكية بينها بحيث نكتشف باستمرار بأن ما يقال مختلف بل وبعضه متناقض عما يطبق في الواقع..