معضلة المثقفين
إسراء عادل جناحي
في كل أمة من الأُمَم، ومجتمع من المجتمعات، ثُلَّةٌ جليلة منه، ونُخْبة تُعدُّ من أبرز النخب وأهمها، آثرتْ إجهاد النفس على راحة الجسد، وشقاء العمل والكَد على رفاهية الراحة، قرأت، وتعلَّمت، وحرَمتْ نفسَها من مُتَعٍ كثيرة في سبيل نهضة فكرها، ورُقي مستواها العلمي، فإن أخفقَت رأت إخفاقاتها تنبيهًا لها لمزيد من البذل والاجتهاد، والتدنِّي عندها حاجة إلى الاشتغال في تطوير النقوص، ومحاولات إلى سدِّ الثُّقوب، كما اتخذت من التفرُّد سمةً لها؛ ولذلك فهي لا تُقارِن نفسَها بغيرها، دَيْدَنُها الانشغالُ في ترميم ذاتها، وتقويم المعوج من أمرها، فأدركت أخطاءها، وآمنتْ بضرورة الانشغال في إصلاح النفس أولًا، فابتعدتْ عن غيرها، بل عن مجتمعها بأسْرِه، وهذا حال بعض المثقَّفين، بل هي معضلة المثقَّفين!
إن المثقف هو يَنبوعُ الدول الجاري، هو ماؤها الصافي الزُّلال، به تُزهِر حدائقُ الأوطان، وبعلمه وثقافته تُبْنى الأمجاد، هو ذُخْر الوطن الذي لا يَنضُبُ، هو الذهب الأسود الدائم الذي لا تؤثِّر فيه الألوان، فمهما خالَط من أُناسٍ، يظلُّ محتفظًا بنفسه وبلونه وبِهُويَّته، ولكن عندما يبتعد عن محيط مجتمعه، وينشغل بنفسه وبعلمه، مُتناسيًا مَن حوله، فإن هذا لهو أمرٌ عظيم، وحاجة مُلِحَّة تستدعي التدخُّل السريع منَّا جميعًا، فالمثقف أحد أهم الأعمدة التي تقوم عليها المجتمعات، فإن فُقِد فُقِدت، وإن كُسِر كُسِرتْ، وإن جُرِح جُرِحَت، فمُصابُها من مُصابه، وقِوامُها مِن قِوامِه.
وقد تتراوح أسباب ابتعاد بعض المثقَّفين بين سبب قوي وضعيف، تختلف من شخص لآخر وَفْقًا لظروفه واحتياجاته، لكن رغم ذلك كله لا ينبغي له الابتعاد؛ ففي الابتعاد تركٌ وزُهْدٌ في الشيء، وإن زَهِدَ المثقف في إصلاح ما يُعاني منه مجتمعُه فلا فائدة منه؛ لأن ما يتعلَّمه الفردُ وينتفع به، يجب عليه تعليمه للآخرين؛ ولذلك فالقراءة والاطلاع ما هي إلا أرصدة لأموال مجَّانية تُضاف إلى حساباتنا الحياتية، فتنطبع على سلوكنا وتصرُّفاتنا وخبرتنا، فيصير الصغير بفعلها راشدًا، يدرك ما يفعل، ولا يندم على ما يتَّخذ، فيُتوَّج مع مرور الأيام بتاجٍ من الحكمة والوقار؛ ولذلك فلا ينبغي لمتخصِّص متعمِّق في تخصُّصه ألَّا ينصح المبتدئين فيه، وكذلك في كل فن ومهارة، فنفعُكَ للغير نَفْعٌ لنفسك، فإن تميَّزْتَ في أمرٍ ما فاعْكُفْ عليه، واصبِر على تعلُّمه، وتذكَّر دائمًا أنَّ من استعجل الشيء قبل أوانه عُوقِبَ بحرمانه، وشاوِر المختصِّين فيه حتى تبلُغ أعلى الرُّتَب؛ "فالعلم أشرف ما رغِب فيه الراغب، وأفضل ما طلَب وجدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسَبه واقتناه الكاسب"، واحترِس أن تكتُم علمًا، أو تَحسُد أحدًا، فما أُسِيءَ إلى العلم والعلماء إلا بمثل هذه الصفات والأخلاقيات التي لا تَمُتُّ إلى المخلصين فيه بشيء، واحذَر أن تنعزل أيها المثقف؛ فإن المجتمعات مِن علمك تنهَل، ومن خبرتك تزدَهر، وإننا بك نقف ونتَّحِد، وبابتعادك ننزوي ونتراجع، وبتجنُّبك بعضَ المناصب والأضواء نتصدَّر بكثير من المتعالمين والجُهَّال.