لم تكن عيناها تكتحل بغمضٍ حتى تطمئنّ عليهم جميعاً: السلحفاة, الطباخة, السحلية,
الجرّافة الكبيرة والحمل الصغير..
وفي الصباح..تشقشقُ عينيها, تحيّيهم وهي ملتحفة في فراشها تطمئن عليهم, بروحٍ طفوليةِ مرحة
تكلّمهم وتهمس لهم بأحلامها -أو كوابيسها-, تمشّط شعرها وتخرج للّعب بعد تناول فطورها على مائدةٍ تتزاحمُ عليها الأيدي..
وقبل أن تنام, تحدّثهم عن يومها المليء بالمفاجآت والاكتشافات والمغامرات..
في أحد الأيام, وفي السهرة العائلية اليومية..نامت "سنبلة" وعيناها غارقتان بالدموع, وكان الجميع لا زالوا يتسامرون
دون أن ينتبهوا لها وقد انسحبت بصمت..
على فِراشها الأرضيّ البسيط, كانت تبكي وتغرق بدموعها, فهي لا تريد أن تفقد أعزّ أصدقائها: "السلحفاة, الطباخة, السحلية,
الجرّافة الكبيرة والحمل الصغير..", وفهمت بعقلها الصغير من حديث السهرة العائلية أنها ستفقدهم , وأنها لا تملك أن تحميهم من بطش
الاجتياح القادم غداً..ولا من الطوفان الذي سيبتلعهم لا محالة..!
"كيف ثأحميهم يا ربي..أنا أحبهم كثيراً, كيف ثأحميهم.." كانت تفكّر بينها وبين نفسها..
"ثأكلّم المثؤول غداً كي يتوقف! ثأقِفُ في طريقه كما أراهم يفعلون في التلفاز! نعم ثأفعل!"
في صبيحة اليوم الموعود..خرجت الأمّ وجميع أبنائها لبيت الجدّ, وأصرّت سنبلة أن تبقى مع والدها..
جاءت شاحنة كبيرة فيها العتاد للاجتياح, رجلٌ طويلُ القامة نزل منها برفقته ثلاثةٌ من الشبّان, كلّهم يرتدون على رؤوسهم
"قُبّعات", ويحملون في أيديهم أشياء غريبة لم تفهم سنبلة ما هي, رأتهم لاحقاً يغطّون بها أنوفهم وأفواههم..وبأيديهم عدّة أخرى.
وقف والدها برفقتهم قليلاً, يكلّمهم ولا تسمع -ولا تفهم أيضاً- عمّاذا يتحدثون, كان همّها الأكبر تأمين رفاقها الخمسة.
بعد حين انسحب والدها ليباشر الرجال عملهم...دخلوا البيت بعُدّتهم, تبِعتهم سنبلة لترى ماذا سيفعلون, وكيف سيخرّبون عالمها
المحبب , ودمعةٌٌ تنحبس حيناً وتفرّ حيناً آخرَ من عينيها..
وهو يطالعُ المكان...شعر كبيرُهم "كريم" بيدٍ صغيرةٍ تتشبّث بثيابه تشُدّه, نظر للأسفل...جلس القرفصاء ليتسنّى له أن يستمع جيّداً..
- عمو...
~ نعم يا حلوة ^ ^...
ردّ مبتسماً...
بوجهٍ عابس ردّت سنبلة:
- ممكن أطلب منك طلب؟؟
~ طبعاً ! بالتأكيد.. لكن حين تبتسمي.. :) لماذا
أنتِ مكشّرة؟؟
- لي أثدقاء, أرجوك لا تؤذِهم..!
~ أنا؟؟!
كيف أوذي أصدقاءكِ؟!
أمسكت يدُها الصغيرة بيده الكبيرة جداً وقالت:
- تعال, ثأُريك إياهم كي لا تؤذيهم..
ورافقها وعلامةُ الدهشة تتأرجحُ على جبينه!
أشارت لمكانٍ ما..
- هؤلاء, الثلحفاة, الطباخة, الثحلية, الجرّافة الكبيرة والحمل الثغير...أرجوك
لا تؤذِهم, ولا تدَع أحداً يؤذيهم..!
ابتسم ابتسامةً كبيرة أزالت ملامح الدهشة العالقة على جبهته, وتهلّلت أساريره..
هذا الكمّ من البراءةِ والطفولة النقية والعيون المليئةِ بالرجاء الجادّ, تخاطبُه وتأملُ خيراً...لم يستطع
أن يخذلها..
~ ولا يهمّك عمَو ! 
- ثكراً يااا أحثن عمّو!
عانقَتْه وكأنها حصلت على كنزٍ ثمين!! وذهبت تلعب وهي مطمئنّة أنه لن يؤذي أصدقاءها..
بين الفينة والأخرى كانت تختلس النظر للرجال وهم يتمّمون عملهم, كان سرورها عميقاً حين لمحت البحر الأبيض يلتهم
ذلك الوحش الكبير الذي كان يمنعها دخول المطبخ وحدها, وكان تناول "كوب ماء" عن طاولة المطبخ تحدياً يستحق أن تهنئ نفسها
عليه لو قامت به وحدها دون مرافقة أخيها..
ذهبت تكمل لعبها مُنتشيةً بموت الوحش الكبير... وعادت بعد حين ترى أين وصل البحر الأبيض في مدّه الكبير..
تجمّدت في مكانها بباب الغرفة حين رأت الطوفان يقترب من أصدقائها المحببين, وأخذ يبتلعهم واحداً تلو الآخر...!
خرجت لعمّو "كريم" مُستنجدةً به , كانت تبكي بحرقة فاصطدمت به.
~ ألم تقل لي أنك لن تؤذي أثدقائي ولن تدع أحداً يؤذيهم؟؟
ها هُم لا يبالون ! ولا يسمعون كلامك !
أنا أكرهك! أكرهكم جميعاً !
وذهبت بخاطرٍ مكسور تبكي وحدها..
وقف كريم مع والد سنبلة, كلّمه لدقائق شرح له فيها ما حصل..واقترح عليه أمراً..فوافقه الأب بلا تردد..
وضحكته وضحكة كريم تتردد على مسامع سنبلة..
- كم أنت ثرّير.. -حدثت نفسها- , كم أكرهك, وكم أنت كاذب..الكبار لا يكذبون, لكن أنت
كاذب,
وبابا! بابا يضحك! لكن لماذا يضحك مع ذلك الكذّاب؟!
أحسّت سنبلة بقلبها ينفطر, ثم شعرت بيدٍ دافئةٍ تمسّد شعرها.. نظرت وإذا به والدها الحنون..
ارتمت في حضنه تبكي أعزّ رفاقها الذين لم يكن يعلم عنهم أصلاً...
قال لها ويده تلتقط اللآلئ عن وجنتيها:
- لماذا تبكي حبيبتي الغالية؟؟
ازداد نشيجُها, لأن والدها لا يعرف أصدقاءها أصلاً, فكيف تحدثه عنهم وتشكو همّها؟؟
- أحبهم أنا....
قال الأب..
توقّف بكاؤها فجأة, قالت بصوتها البريء المخنوق:
~ من هم؟؟
- السلحفاة, الطباخة, السحلية, الجرافة الكبيرة والحمل الصغير...
قالها ببطء ودندنة, وعيناه تحتضنان فلذة كبده..
فاجأها جداً ما قال..
~ ومِن....مِن أين تعرفهم؟؟
- أرى صغيرتي الحبيبة تكلّمهم...وتلعب معهم دوماً, تراقبهم وتقول لهم صباح الخير.. :) , وفي نهاية
النهار ستدخل حلوتي غرفتها ولن تجدهم..
لذلك هي تبكي ولا تخبر والدها لِمَ تبكي.. 
جفّت الدموع من عيني سنبلة! وأذهلها أن والدَها يعرف كلّ شيء عنها, حتى وهي لم تخبره!
احتضنها بدفء, ووضعها في حِجرِه ويدُهُ على خدّها الملائكي , استسلمت في حضنه للنوم دون
أن تقول أي شيء.
بعد حين, انتهى العمّال من طلاء البيت بالكامل, وحضروا برفقة السيد كريم لوالد سنبلة.
- أتممنا العمل كما تحبّ سيّد هاني, وكما اتّفقنا..
~ والمفاجأة أيضاً؟؟
- نعم سيد هاني, والمفاجأة كما اتفقنا..وفي نفس المكان..
~ شكراً لكم, الله يعطيكم العافية..
استيقظت سنبلة على صوت السيد كريم يحادث والدها , فقطعا الحديث فور انتباههما لها..وغاصت
سنبلة في حِجر والدها تخبّئ وجهها , ونظراتٌ غيرُ ودودة ترمقُ بها كريم..
ابتسم لها كريم, وابتسم السيد هاني..ثم أوفى العمّالَ أجورَهم و ودّعوه شاكرين.
- تعالي يا حلوتي ندخل البيت, بعد قليل تأتي ماما واخوتكِ ونحضّر العشاء سوية..
~ لا أريد الدخول...
وعادت للبكاء من جديد,
- :) تعالي يا حبيبة بابا..
ركضت تسبق والدها تهرب منه وهي حزينة, وفوراً اتجهت لمكان أصدقائها الخمسة -تلك البُقع الداكنة
التي تكوّنت على جدران الغرفة بفعل الرطوبة وتقشّر الطلاء, وبفعل الفقر وعدم القدرة على طلاء البيت...عِشرةُ
عُمر تكوّنت فربطتها بهم منذ بدأت تعي ما حولها . وابتلعهم بحر الطلاء الأبيض فجأة ولم يعُد لهم وجود - .
فتحت باب الغرفة وهي تبكي..وهناك كانت المفاجأة تنتظرها....
كانت رسوماتٌ جميلة تتألّق على نفس الجدار الذي حوى أصدقاءها.. رسوماتٌ لـ(سلحفاة, طباخة, سحلية,
جرّافة كبيرة وحمل صغير) في نفس مكان أصدقائها الأصليين...
استدارت مسرعةً تريد أن تخبر والدها عمّا تراه, وإذا به واقفٌ بالباب يبتسم ابتسامته الحنون
الدافئة...
ركضت إليه , فتلقّفها بيديه عالياً يرفعها في الهواء...
وضحكتها تملأ البيت الجديد بفرحٍ لا ينقضي..
النهاية. 