ثمّة في قلب تلكَ المرأة ما لَا أفهمه ؛ حروفٌ مخنوقة ، و سطورٌ مُخبّأةٌ خلف .. خلف الَاشيء ؛ لَم يكن هناك من ستار يُخفي ما بداخلها ، ذلكَ أنّها كانت أكثر وضوحًا من أيّ شيء آخر .
لَم يكن هناكَ ما تخفيه وَ تخاف إظهاره ، لكن وَ برغم ذلكَ ، كان هناكَ شيءٌ يستعصي على المرء فهمه ؛ طلَاسم يصعبُ حلّها .. هذا إن لم يكن مستحيلًا .
كان هناك شيءٌ يأبى الظهور و يفضّل أن يبقى مختفيًا ،و لعلّ ما ساعده على البقاء بالداخل ، إيمانها -و إن لم تتقيّد به تمامًا- بأنّ هناكَ أمورٌ يُستحسن أن تبقى غامضة .
تلكَ المرأة تؤمن عميقًا ، بقدر إيمانها بأنّ كوب قهوتها -الذي تضعه على الطاولة أمامها و ترقبه متأمّلةً- ، قد يمنحها لحظاتٍ من الصفاء و السكينة ، و تعتقد بأنّ كوب القهوة نفسه سينسيها جزءً من همومها ، و أراها تزيد كمية البنّ يومًا بعد يوم و تنقص عدد ملَاعق السكر ، كأنّها تقايض الحياة "سأشرب المرّ اختيَارًا لتهبيني ساعات صفاءٍ و بعض الِإرتياح .." .
كانت بذلكَ تدمن القهوة كمسكّنٍ لَآلَامها التي لَا تنتهي و التي فتكت بقلبها الرهيف .. كان بإمكانِي أن أقول "قلبها الضعيف" لكنّني حينها سأكون كاذبة ، فقلبٌ يُتقن كتمان الَألم وَ لَا يصرخ إلّا صمتًا هو قلبٌ قويٌّ .. بقدر ما فيه من فرط ألم ، و بحجم الجراح التي طُبعت على جدرانه ..
كانت في كلّ مرّة ترتشف القهوة ، تأمل أن يتحوّل "جزءُ" الهموم الذي يمحوه البنّ "كُلًّا" .. و لكن لَا أمل في تحقيق ذلكَ ، فسرعان ما تنتهي الرشفة لتعود إلى عالمها القاسي و تهجر عالمًا صنعته هي لنفسها !
كانت تؤمن عميقًا بأنّ الَأقدار لَا تغتالنا إلّا في النهاية ، و بأنّ حديث القدر لَا يُمكن أن يُخطّ كغير خاتمةٍ لَأحلَامنا و آمَالنا ، و بأنّه -حديث القدر- لَا يظهرُ إلّا في نهاية المطاف ، ليعصف بكلّ ما بينيناه ذات يومٍ و يمتصّ كلّ أملٍ تمسّكنا به حتى آخر رمقٍ ..
و لكنّها أيضًا ، كانت تعلم أنّ أكبر خطأٍ قد يرتكبه المرء هو أن يرسم طريق النجاح دون أن يتوقّع الفشل أو يرسم له منعرجًا في منتصف ذلك الطريق.. أجل كانت تعلم ذلكَ ، و إن أبدتْ العكس .
لوحةُ الطفل الباكي معلّقةٌ على الحائط خلفها ، و على الحائط المقابل لوجهها البائس ، مرآةٌ طويلةٌ معلّقةٌ في غير مكانها ..
على الطاولة تناثرتْ بعض الصور حول كوب القهوة ، و بعيدًا عنه قليلًا كتابٌ مهترئٌ من كثرة ما قلّبتْ صفحاته .
تلكَ الصفحات باليةٌ بعدد المرّات التي مرّرتْ عيونها في أسطرها و تمعّنتْ في حروفها ، أكاد أجزم بأنّها قرأت ذلك الكتاب قراءةً كاملةً ، و ربّما حفظتْ القليل .. بل الكثير من عباراته .
ذلكَ الكتاب ، ماكنتُ لُألَاحظهُ لولَا تلكَ الوردة التي وُضعتْ عليه ..
هي تتأمّل الوردة بشيء من الحنين القاتل ، و لن يصعب على المرء ملَاحظة ذلكَ الحزن المخبأ في عينيها مهما حاولتْ إخفاءه ، خصوصًا إذا نظر إلى انعكاسها في المرآة المعلّقة أمامها ..
المرايا لَا تعكس وجوهنا فقط ، بل تعكس أرواحنا و تمنحنا منفذًا للغوص أكثر في ذواتنا ، أكبر خطأٍ قد يرتكبه أحدنا هو تعليق المرايَا في غرف المنزل ، ذلكَ أنّ المرايا تكشف أخطاءنا و تفضح جرائمنا ، حتى الهفوات لن تمرّ بين إطارين مرور الكرام .
على المرء أن يحرص على عدم تعليق مرآةٍ مهما كان حجمها في مكانٍ يجمعه بالَآخرين ، لَأنّ ذلكَ سيفتح باب أعماقه أمام الجميع و سيصنع جسرًا للعبور إلى باطنه .. و على مَن أراد اكتشاف ما بداخل شخصٍ ما ، أن يتأمّل انعكاس ذلكَ الشخص في المرآة ، فالمرايَا و إن كانتْ تُرينا عيوب و محاسن مظاهرنا ، إلّا أنّها لَا تعكس سوى ثقوب أرواحنا ، لهذا يجب على المرء أن يتجنّبها قدر استطاعته .. إلّا إذا كان خاليًا من الثقوب !!
هاهي يدها تمتد لتجمع الصور المبعثرة ، محاولةً إيجاد الترتيب المناسب ليكتمل شريط الذاكرة ..
أقسى ما في الذكريات ، أنّها لَا تغتالنا إلّا في لحظات ضعفنا لتزيدنا يأسًا و حزنًا ..
تُراها تحاول التخلّص ممّا بقي عالقًا بذاكرتها ؟ أم تحاول استرجاع تلكَ اللحظات التي شكّلت ذكرياتها ؟
أحيانًا ، نعتاد الَألم .. حتى ندمنه !
بعثرَتْ الصور من جديد ، و راحتْ تحرّك يديها في كلّ الِإتّجاهات كأنّما تبحث عن شيء ضائعٍ ، رُبّما تكون صورةً سقطتْ منها سهوًا ..
و فجأةً ، دَفعتْ كوب القهوة ، فانسكب ما بداخله على الطاولة و لطّخ كلّ الصور . رفعتْ رأسها ، لتقابل المرآة المعلّقة أمامها ، تأمّلتْ انعكاسها .. ثمّ .. إرتسمتْ على ثغرها ابتسامةٌ ساخرةٌ ..
الَآن فقط تداعى جدار صمتها ، و صرتُ أراها كما هي .. أُزِيحَ الستار الذي كان يخفي جريمتها ..
كلّ ما كانت تفكّر فيه هو المزيد من الخداع ، كذبةٌ أخرى توقع بها ضحيّةً أخرى ..
لم تكن تحمل من الَألم شيئًا ، و لم تحمل في ذاكرتها سوى جراح مَن غدرَتْ بهم ، وَ ملَامح حزنهم .. وَ بعض الوجع ؛
تلكَ الصور كانت لضحايا زيفها ، و كوب القهوة لم يكن أكثر من مهدئٍ يجعلها تفكّر بشكل أفضل ..
وَ الوردة ... أقسى ما في الوردة ، أنّها تُنبئُ بجريمةٍ أخرى ..!!
تَمّتْ
بِــ قلمِــي ؛