الفصل الأول :
الأحكام العامة لدعاوى الحيازة :
تتمتع الحيازة بين الأنظمة القانونية بمكانة بالغة الأهمية، ليس من الوجهة النظرية فحسب ،و إنما لما يترتب عليها من أثار خطيرة قد تضعها في مكان الصدارة بين أسباب الملكية، فالحيازة هي عنوان الملكية الظاهر، إذ غالبا ما يكون حائز الشيء هو مالكه، و على من يدعي خلاف ذلك إقامة الدليل العكسي على صحة ادعاءه , و إذن فالحيازة و باعتبارها حالة واقعية قد لا تستند إلى أي حق للحائز، و رغم ذلك فقد كفل لها المشرع الحماية القانونية اللازمة، هذه الحماية لا يمكن تجسيدها بواسطة الوسائل المقررة لها قانونا إلا إذا ألممنا بالقواعد أو الأحكام العامة التي تحكمها و تنظمها كمرحلة أولى لتناولها بأكثر توضيح و تفصيل في المرحلة الموالية، و هو ما سنتطرق إليه في الفصل الأول من موضوع بحثنا، و ذلك بداءة ببيان شروط قبول دعاوى الحيازة بصفة عامة، و مرورا بإبراز خصائصها و التي هي سمات تطبعها و تميزها عن غيرها من الدعاوى الأخرى، لنصل إلى تبيان القواعد التي تطبق على جميع هذه الدعاوى و التي اخترنا أن تكون حلقة العبور من العموم إلى التخصيص أين يغلب الطابع الإجرائي و التطبيقي بتفصيل كل دعوى على حدى ببيان أحكامها الخاصة، و على ذاك قسمنا الفصل الأول إلى ثلاث مباحث تناولناها كالأتي بيانه :
المبحث الأول :
شروط قبول دعاوى الحيازة :
الحيازة تحمي الأوضاع الظاهرة كونها قرينة على الملكية، و من ثم فإنها تهدف إلى حماية الحائز بصرف النظر عن المالك الحقيقي ،و بالنتيجة تحقيق حماية الأمن و النظام العامين ، لأنها تقوم على مبدأ أساسي و هو عدم جواز اقتضاء الشخص حقه بنفسه، فما على من يدعي خلاف الظاهر إلا اللجوء إلى القضاء ،و مما لاشك فيه أن دعاوى الحيازة و كغيرها من الدعاوى الأخرى تخضع في رفعها للشروط المنصوص عليها في المادة 459 من ق.ا.م ، غير أن هذه الشروط تعالج بما يتناسب أو يتوافق و طبيعة دعاوى الحيازة ، و هو ما يجعلنا نطرح جملة من الأسئلة بهذا الصدد كقولنا متى تكون المصلحة قانونية ؟ و كيف تكون حالة ؟ من تنصرف له صفة رفع دعاوى الحيازة ؟ هل يمكن ممارسة هذه الدعاوى في أي وقت من حصول الاعتداء أم أن ذلك يخضع لقيد زمني ؟
جميع هذه الأسئلة حاولنا الإجابة عليها من خلال المطلبين المواليين فخصصنا الأول لبيان ضرورة توافر أركان الحيازة و شروطها ، باعتبار أن هذا العنصر يترجم في مضمونه شرط المصلحة بوصفيها و يحوي في طياته بيان من له الصفة في رفعها و نظرا لأهميته و وزنه في الموضوع فقد تناولناه بإسهاب يخدم الغاية المرجوة للوقوف على أهداف المشرع من تقرير هكذا دعاوى، لاسيما عندما يتعلق الأمر بحماية الأمن و النظام العامين ، خاصة و أن شروط الحيازة و أركانها هي الأساس القاعدي لممارسة الدعاوى المقررة لحمايتها ، بينما تناولنا في المطلب الثاني شرط الميعاد كقيد زمني و ضعه المشرع حفاظا على استقرار الأوضاع و ثباتها ، و عقوبة للمتخاذل عن تهاونه في استعمال الحق المقرر له ، و بصدده عرجنا في حديثنا على الآراء المتباينة بشأن شهادة الحيازة ، انطلاقا من أن البعض يعتبرها قيدا على رفع دعاوى الحيازة ، و إليكم فيما يلي تفصيل ذلك .
المطلب الأول : توافر ركنا الحيازة و شروطها :
حتى تتمتع الحيازة بالحماية المقررة لها و من ثم ممارسة دعاوى الحيازة لابد من توافر ركناها و شروط صحتها . ففيما يتمثل ركناها ؟ و ما هي شروط صحتها ؟
أولا : أركان الحيازة :
حتى تكون الحيازة منتجة لأثارها القانونية لابد أن تتوافر على ركنيها و هما الركن المادي و المعنوي و اللذان سنتناولهما كالأتي :
1- الركن المادي :
الحيازة ما هي إلا حالة واقعية تتكون من سيطرة شخص على الشيء محل الحيازة ظاهرا عليه بمظهر المالك ، و يتحقق ذلك بأن يقوم الشخص بالأعمال المادية التي يباشرها عادة من كان مالكا للشيء ، فمباشرة هذه الأعمال المادية هي التي تكون الركن المادي في الحيازة (1) .
ولكي تتحقق الحيازة يجب أن يصبح الشيء محل الحيازة تحت سيطرة الحائز الفعلية بالاستحواذ الفعلي عليه ، و يقوم الحائز بنفسه بالسيطرة المادية على الشيء محل الحيازة أو بالوساطة أو بالاستخلاف و قد تكون السيطرة المادية على الشيوع أيضا ، و يستوي أن يكون الشيء محل الحيازة مملوكا للغير أو غير مملوك له (2) .
إن قولنا محل الحيازة قد يكون شيئا مملوكا للغير ، أو غير مملوك له يستدعي منا معالجة نطاق الحيازة أو مجالها، و ما نتفق حوله أن هذا الأمر ما كان ليطرح قبل سنة 1990 أي قبل صدور القانون رقم 90/30 المؤرخ في 01/12/1990 ، المتضمن قانون الأملاك الوطنية إذ أنه لم يكن يتصور أن تنصب الحيازة على مال غير مملوك، لأن العقار الذي ليس له مالك
هو ملك الدولة ، لكن بصدور القانون سالف الذكر أصبحت الحيازة تنصب على الشيء سواء كان مملوكا للغير أو غير مملوك له ، انطلاقا من أن الأملاك الوطنية تم تقسيمها إلى أملاك وطنية عامة و أملاك وطنية خاصة ، هذه الأخيرة يجوز التمسك فيها بالتقادم المكسب عن طريق المطالبة القضائية ، في حين لا ينطبق ذلك على الأملاك الوطنية العامة وفقا لنص المادة 04 من القانون رقم 30/90 و التي تنص أن الأملاك الوطنية العامة غير قابلة للتصرف و لا للتقادم ولا للحجز (1)
و ما تجدر الإشارة إليه بهذا الصدد أن المشرع قد أدمج بنص المادة 13 من الأمر 95/26 المعدل و المتمم للقانون رقم 90/25 المتضمن التوجيه العقاري أراضي العرش ضمن أملاك الدولة الخاصة و بالتالي بإمكان الأشخاص الحائزين على الأراضي من نوع العروشية بعد إكمالهم للمدة المقررة للتقادم المكسب أن يرفعوا دعاوى أمام المحاكم للمطالبة بتمليكها لهم على أساس الحيازة (2) ،في حين هناك من يرى أنه لا جدوى من التفرقة بين أملاك الدولة سواء منها العامة أو الخاصة إذ كلتيهما لا تنطبق عليهما أحكام الحيازة (3) .
سبق القول أن الركن المادي يتحقق بالسيطرة الفعلية على الشيء محل الحيازة من خلال الأعمال المادية التي يباشرها الحائز، ففيما تتجلى هذه الأعمال؟و كيف تتم مباشرتها ؟
يقوم الحائز بمجموعة من الأعمال المادية التي يباشرها عادة صاحب الحق موضوع الحيازة ،و يتحقق ذلك من خلال الاستحواذ الفعلي و الإحراز المادي و الظهور بمظهر صاحب الحق، بحيث يجب أن تكون هذه الأعمال كافية لتحقيق هذا المظهر، فاذا كان الشيء دارا دخلها و استحوذ عليها و سكنها أو أسكن فيها غيره، و إذا كانت أرضا زراعية زرعها و بنى عليها و هكذا، بينما الأعمال القانونية كالبيع و التأجير، فلا تكفي بذاتها لتحقق الركن المادي في الحيازة ، و ذلك لأن مباشرة هذه الأعمال و التصرفات لا تدل بذاتها على السيطرة الفعلية لمن يقوم بها على الشيء ، كما يشترط في الأعمال المادية التي يأتيها الحائز أن تكون من الكثرة و الأهمية ،بحيث تكفي للقول بأن هذا الحائز يظهر بمظهر صاحب الحق (1)
أما عن كيفية مباشرة هذه الأعمال المادية فقد تكون ممارستها من الحائز بنفسه بغض النظر عن كونه مالكا أو غير مالك ، كما قد تكون بواسطة شخص آخر أي عن طريق غيره ، و هو ما يطلق عليه بالوساطة ، و التي تصح الحيازة بها متى كان الوسيط يباشرها باسم الحائز و كان متصلا به اتصالا يلزمه الائتمار بأوامره فيما يتعلق بهذه الحيازة * مع ملاحظة أن هذا الحكم ينصرف فقط إلى العنصر المادي دون المعنوي .
و كمثال عن ذلك : السيطرة المادية التي يباشرها الحائز بواسطة خدمه، أو أتباعه، أو عماله أو مستخدميه، هؤلاء يحصلون على أشياء باسم مخدوميهم أو متبوعهم بسبب تأدية أعمال و وظائفهم، كذلك ما يباشره الوكيل من أعمال مادية لحساب الموكل فهو يعمل باسمه مؤتمرا بأوامره فيما يتعلق بحيازة الشيء لصالح الموكل طالما كان الوكيل يعمل في حدود الوكالة، و كذا الأمر بالنسبة لناقص الأهلية فانه يباشر أعمال السيطرة المادية عن طريق من ينوب عنه قانونا * ، اذ يباشرها باسمه الولي أو الوصي أو القيم ، فهؤلاء الأخيرين لهم ممارسة دعاوى الحيازة بالنيابة وفقا لما تنص عليه المادة 817 فق 02 من القانون المدني.
كما يمكن مباشرة الأعمال المادية عن طريق الاستخلاف ، و ذلك عندما تنتقل السيطرة المادية إلى الحائز من شخص آخر كانت له السيطرة الفعلية على الشيء من قبل ثم نقلها إليه ، و توضيحا لذلك نورد المثال الأتي : قيام شخص ببيع عقار في حيازته لشخص آخر، فيسلم المبيع للمشتري، فالسيطرة الفعلية كانت للبائع سواء كان مالكا أو غير مالك له ثم نقلها للمشتري، و في هده الصورة لا يشترط الاستحواذ الفعلي على الشيء بل يكفي مجرد التمكن من الاستحواذ فان كان المبيع عقارا مثلا فان السيطرة الفعلية تنتقل إلى المشتري بتسليمه المفاتيح و مستندات الملكية ووضعه تحت تصرفه بحيث يتمكن من تسلمه دون حاجة إلى أن يتسلمه بالفعل (1)
أما الصورة الأخيرة فتمكن في السيطرة المادية على الشيوع، إذ الحائز على الشيوع يكون لديه العنصران المعنوي و المادي في الحيازة فهو في العنصر المعنوي يكون مشتركا مع غيره لا خالصا لنفسه و في العنصر المادي يباشر السيطرة المادية بالاشتراك مع غيره لا خالصا لنفسه مثال ذلك أن يحوز شخصان عقارا ، فيسكنان العقار معا دون أن يستقل أحدهما بالقيام بأي عمل من هذه الأعمال. (1)
غير أنه و إن اختلفت صور مباشرة الأعمال المادية في الحيازة فان المتفق عليه هو وجوب توافرالصفة في رافع دعاوى الحيازة التي لا تقبل إلا من ذي صفة على ذي صفة ، فترفع من الحائز بنفسه أو بواسطة غيره على كل من يعتدي على الحيازة أو يحتمل أن يعتدي عليها (2) .
2 – الركن المعنوي :
لا تكفي أفعال السيطرة الفعلية على الشيء محل الحيازة لوحدها، بل لابد أ ن تتوافر لدى الحائز نية تملكه ، و الظهور بمظهر صاحب الحق و مالكه، و للوقوف على مفهوم الركن المعنوي للحيازة علينا التطرق إلى نظريتين في هذا الصدد ثم تحديد موقف المشرع الجزائري منهما :
أ – النظرية الشخصية *:
لا يكفي لقيام الحيازة القانونية توافر الركن المادي بل يجب أن يقترن بالركن المعنوي المتمثل في نية التملك باستعمال الشيء و استغلاله و التصرف فيه كما يفعل المالك الحقيقي للشيء، و عليه فان هذا العنصر لا يتوافر في حيازة المستأجر و المستعير و المودع عنده * و الموقوف عليه،إذ أنه و بالنسبة لهذا الأخير فحقه ينحصر في الانتفاع بالعين فقط *ذلك أن الأملاك الوقفية لا يمكن تملكها بالتقادم المكسب بسبب زوال حق الملكية سواء كان الوقف عاما أو خاصا، و من ثم تنعدم فيها نية التملك *.
ب – النظرية المادية * : تعترف بالحيازة حيثما وجد سلطان مادي لشخص على شيء معين ، بمباشرته أعمالا إرادية و قصدية عليه، فالإرادة هنا تندمج في السيطرة المادية و لا يمكن أن تنفصل عنها ، فهما عنصران متلازمان لا يكون أحدهما إلا بالآخر.
و بهذا الصدد كان التمييز بين الحيازة الحقيقية أو القانونية و بين تلك العرضية و حسب هذه النظرية فإن مرد التمييز ليس في اختلاف نية الحائز أو قصده بل أن أساس التفرقة هو سبب الحيازة نفسها و هو ما أطلقت عليه هذه النظرية بالعنصر العرضي في الحيازة ، فإذا كان سبب الحيازة هو وضع اليد على الشيء لحساب الغير ، فإن ذلك لا يؤدي إلى نفي الحيازة مطلقا ، بل تنتفي عنها صفة الحيازة الحقيقية لتصبح حيازة عرضية (1) .
و من باب المقارنة بين مختلف التشريعات و أعمالها لكلتا النظريتين فانه و على سبيل المثال أخد من المشرع الفرنسي و المصري و اللبناني بالنظرية الشخصية بينما أخذ كل من التشريع الألماني و السويسري بالنظرية المادية .
- فما هو موقف المشرع الجزائري من كلتيهما ؟
أخد المشرع الجزائري بالنظرية الشخصية في الركن المعنوي للحيازة كقاعدة عامة بينما أخد بالنظرية المادية كاستثناء ، و ذلك عندما حمى حيازة المستأجر ، و هي حيازة عرضية بجميع دعاوى الحيازة وفقا لما تنص عليه المادة 487 من القانون المدني فحيازة المستأجر لا تتوافر إلا على الركن المادي دون المعنوي (2) ، ففي هذه الحالة لا يكسب حق الملكية على العين المؤجرة بالتقادم مهما طالت مدة حيازته للعين ، و إنما يستطيع أن يتمسك باسم المؤجر بحيازته للعين المؤجرة ، كأن يكون المؤجر غير مالك للعين و يكون قد وضع يده عليها مدة اثنتي عشر سنة مثلا ، ثم أجرها و حازها المستأجر مدة ثلاث سنوات أخرى فيعتبر المؤجر قد حاز العين بواسطة المستأجر هذه المدة الأخيرة ، و بالتالي أكمل مدة التقادم لكسب ملكية العين ، و كذلك لا يستطيع المستأجر أن يحمي حيازته بحق ملكية العين المؤجرة بدعاوى الحيازة ، لأن هذه الحيازة حيازة مادية محضة و هي لحساب المؤجر ، فإذا لجأ مثلا إلى دعوى منع التعرض فيما يتعلق بالملكية لم يستطع اللجوء إليها إلا باسم المؤجر ، و هذا لا يمنع من أن يلجأ إلى جميع دعاوى الحيازة ، فيما يتعلق بحيازته لحقه الشخصي كمستأجر ، و يرفع هذه الدعوى أصالة عن نفسه لا باسم المؤجر (1) .
غير أن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد هو هل أن الحيازة تظل محتفظة بصفتها التي قامت عليها مند بدايتها فإن قامت عرضية تبقى كذلك مهما طالت مدتها أو أنه يمكن للحيازة العرضية أن تتحول إلى حيازة صحيحة ؟
القاعدة العامة ووفقا لنص المادة 831 * فقرة 01 من القانون المدني فإن الحيازة تظل محتفظة بصفتها التي قامت عليها ، إذ أنه ليس لأحد أن يكسب بالتقادم على خلاف سنده على أنه لا يستطيع أحد أن يغير بنفسه لنفسه سبب حيازته و لا الأصل الذي تقوم عليه .
إلا أن هذه القاعدة العامة يرد عليها استثناء تضمنته الفقرة الثانية من المادة المذكورة آنفا ،إذ أنه يمكن أن تتحول الحيازة العرضية إلى حيازة صحيحة فيستطيع بذلك الحائز أن يكسب بالتقادم إذا تغيرت صفة حيازته بأحد الأمرين :
الأمر الأول : فعل يصدر من الغير * : و الذي عادة ما يكون تصرفا ناقلا للملكية يتلقاه الحائز العرضي من الغير فتتغير به صفة حيازته العرضية و تتحول إلى حيازة أصلية ،إذ أن الحائز يحوز العين من وقت هذا التصرف لحساب نفسه ، لا كحائز عرضي لحساب غيره ، و من ذلك الوقت يستطيع الحائز أن يحتمي كمالك بجميع دعاوى الحيازة ، و لا يشترط أن يكون الحائز العرضي وقت تلقيه التصرف الناقل للملكية حسن النية .
الأمر الثاني : فعل يصدر من الحائز العرضي يعارض به حق المالك، و لا يكفي في ذلك مجرد إنكار الحائز العرضي لحق المالك و إعلانه ذلك على ملأ من الناس ، بل لا يكفي تصرفه في العين تصرف الملاك فيهدمها متأو يقيم عليها بناءا أو يبيعها ، فهذا يعد تعسفا منه في استعمال حيازته العرضية ، و ليس من شأن هذا التعسف أن يغير صفة الحيازة ويحولها إلى حيازة صحيحة ، بل يجب أن يعارض الحائز العرضي حق المالك فيقوم بينهما مباشرة نزاع على ملكية العين يدعيها الحائز لنفسه و ينكر المالك عليه ذلك (3).
فإذا كانت الحيازة العرضية قد تتحول إلى حيازة صحيحة بأحد الأمرين سالفي الذكر فهل أن هذه الحيازة سواء كانت عرضية أو قانونية تنتقل محتفظة بصفتها تلك إلى كل من الخلف العام * و الخلف الخاص * أم أنها تتحول إلى خلافها ؟
إن حيازة السلف إذا كانت عرضية تنتقل إلى الخلف العام و تبقى كذلك ما لم تتغير بأحد الأمرين على النحو السابق بيانه ،أما إذا كانت حيازة حيازة السلف صحيحة انتقلت بصفتها هذه إلى الوارث الذي يستطيع أن يستمر في هذه الحيازة و أن يضم مدة حيازة سلفه إلى مدة حيازته على عكس الحائز عرضيا، فانه تحسب المدة اللازمة لإنتاج الحيازة أثرها من وقت تغيير الوارث صفة حيازته دون أن يكون له الحق في ضم مدة حيازة مورثه .
أما بالنسبة للخلف الخاص فإنه إذا نقل له الحائز العرضي ملكية العين فلا تكون حيازته عرضية بل تكون قانونية مستوفية لشروطها ، فتحمى بجميع دعاوى الحيازة كونه ابتدأ حيازة جديدة متوافر فيها عنصراها المادي و المعنوي ، و معنى ذلك أننا بصدد حيازتين و ليست حيازة واحدة ، و قد يختلفان في بعض الصفات ، كأن تكون حيازة السلف قانونية و حيازة الخلف عرضية .كأن يؤجر المالك عقاره لمستأجر و قد يحدث العكس بأن تكون حيازة السلف عرضية و حيازة الخلف قانونية و مثال ذلك أن يبيع المستأجر العين لآخر، و رغم استقلال حيازة الخلف عن حيازة السلف فإن المشرع مع ذلك أجاز للخلف إن شاء أن يضم مدة حيازة سلفه إن كانت له مصلحة في ذلك بنص المادة 814/02 من الق.م بأنه " ......يجوز للخلف الخاص أن يضم إلى حيازته حيازة سلفه ليبلغ التقادم ".
و تجدر الإشارة أخيرا أنه كما تقوم الحيازة على توافر الركن المادي و المعنوي فإنها تزول بزوال أحدهما أو بزوالهما معا، على أن الحائز لا يفقد حيازته بسبب مانع مؤقت يعتبر قوة قاهرة كحدوث فيضان يغمر الأرض بالمياه (*)
ثانيا / شروط صحة الحيازة : الحيازة لا توجد إلا إذا توافر ركناها على النحو الذي سبق تبيانه فإذا توافر ركناها ووجدت فإنه يجب أيضا أن تكون خالية من العيوب حتى تنتج أثارها و على الأخص حتى تحضى بالحماية المقررة لها بموجب دعاوى الحيازة .
و قد نصت المادة 413 من ق .إ .م على شروط صحة الحيازة و التي يجب أن تكون هادئة ،علنية ، مستمرة ،لا يشوبها انقطاع و غير مؤقتة و غير خفية ، و استمرت لمدة سنة على الأقل .
كما نصت المادة 808 من القانون المدني في فقرتها الثانية (*) أنه( إذا اقترنت الحيازة بإكراه، أو حصلت خفية، أو كانت فيها التباس فلا يكون لها أثر تجاه من وقع عليه الإكراه أو أخفيت عنه الحيازة أو التبس عليه أمرها إلا من الوقت الذي تزول فيه هذه العيوب) .
و بناءا عليه سنتعرض إلى شروط صحة قيام الحيازة من خلال بيان العيوب التي تشوب صحتها كالآتي :
1- عدم استمرار الحيازة أو تقطعها : حتى تسلم الحيازة من هذا العيب لابد أن تتوالى أعمال السيطرة المادية على الشيء في فترات متقاربة ، منتظمة لمدة سنة كاملة ،فيستعمل الحائز الشيء من وقت إلى آخر كلما تقوم الحاجة إلى استعماله كما يستعمل المالك ملكه في العادة ، فإذا مضى بين العمل و الآخر فترة طويلة من الزمن لا يستعمل فيها الحائز الشيء و كانت هذه الفترة من الطول بحيث لا يدعها المالك الحريص على الانتفاع بملكه انتفاعا كاملا، فان الحيازة تكون في هذه الحالة غير مستمرة أو منقطعة ، فلا تصح أساسا لدعاوى الحيازة ،غير أن إنتظام الاستعمال يختلف باختلاف طبيعة الشيء، فمن يحوز حق السكن مثلا، حتى تكون حيازته مستمرة، يجب أن يسكن المنزل و ألا ينقطع عن سكناه إلا عند سفر أو غير ذلك ،و إن كانت أرضا زراعية وجب عليه أن يزرعها في المواسم الفلاحية ، و لا يعتبر الكف عن استعمال الشيء بسبب قوة قاهرة كحدوث فيضان يغمر الأرض انقطاعا يخل بالاستمرار في الحيازة (1) ، فحيازة العين يجب أن تستمر سنة كاملة ، إذ يكفي لإثبات استمرارها إثبات قيام الحيازة في وقت سابق معين، وإثباتها في الحال كي توجد قرينة على قيامها في المدة الممتدة بين الزمنين (2) ما لم يقم دليل على خلاف ذلك وفقا لما تنص عليه المادة 830 من القانون المدني .
و تجدر الإشارة إلى أن عيب عدم الاستمرار هو عيب مطلق ،إذ أنه يحق لكل ذي مصلحة أن يتمسك به ، لأن الحيازة في ذاتها تكون غير مستمرة بالنسبة إلى الناس كافة ، بخلاف العيوب الأخرى للحيازة فهي عيوب نسبية ، بمعنى أن الحيازة لا تكون لها أثر إلا بالنسبة لمن وجه إليه العيب وحده (1) ، و هو ما يستفاد من نص المادة 808 من الق.م
2- الخفاء أو عدم العلانية : فيباشرها الحائز على مشهد من الناس أو في القليل على مشهد من المالك أو صاحب الحق الذي يستعمله الحائز ، فإذا أخفاها الحائز عن المالك أو صاحب الحق ، بحيث لا يشعر هذا بأن حقه في حيازة غيره كانت الحيازة مشوبة بعيب الخفاء أو عدم العلانية ، و من ثم لا تكون صالحة لأن تحمى بدعاوى الحيازة (2) ، و هو ما يقضي به نص المادة 413 من ق.ا.م.
و عيب الخفاء يتصور وقوعه بالنسبة للمنقولات لسهولة إخفاءها أما العقارات فإنه لا يتصور إخفاء حيازتها إلا نادرا ،كالجار الذي يحوز شريطا صغيرا من أرض جاره ويدخله في حدود ملكية دون علم صاحبه ، ومهما يكن فالحيازة إذا كانت خفية فلا يؤثر فيها حسن أو سوء نية الحائز، و لكن ليس من الضروري لاعتبار الحيازة علنية أن يعلم بها المالك علم اليقين ، بل يكفي إمكانية و استطاعة العلم (3) .
و على خلاف عيب التقطع فإن عيب الخفاء هو عيب نسبي و ليس مطلقا وفقا لما تقضي به المادة 808 فق 02 من الق .م التي نصت على أن الحيازة إن حصلت خفية فلا يكون لها أثرا تجاه من أخفيت عنه إلا من الوقت الذي زال فيه هذا العيب ، و بالتالي فإن الحيازة قد تكون علنية بالنسبة للناس كافة ماعدا صاحب الحق فإنها خافية بالنسبة له ، ولذلك يكون له وحده أن يحتج بعيب الخفاء دون غيره ، و بالعكس لا يستطيع صاحب الحق أن يحتج بعيب الخفاء إذا كانت الحيازة علنية بالنسبة له و حده دون سائر الناس (1)
3- الإكراه أو عدم الهدوء : تكون الحيازة معيبة بهذا العيب إن حصل عليها صاحبها بالقوة أو بالتهديد، و بقي محتفظا بها دون أن تنقطع القوة أو التهديد الذي حصل عليها به ، و يستوي في ذلك أن تكون القوة أو التهديد قد أستعمل ضد المالك الحقيقي لانتزاع ملكه منه أو استعمل ضد حائز سابق غير مالك لانتزاع حيازته ، كما يستوي أن يكون من استعمل القوة أو التهديد هو الحائز نفسه أو أعوان له يعملون باسمه .
و عيب الإكراه هو عيب نسبي ، فإذا انتزع شخص من آخر حيازة عين بالإكراه كانت حيازة منتزع الحيازة مشوبة بعيب الإكراه بالنسبة إلى الشخص الآخر الذي انتزعت منه الحيازة وحده ، و بالنسبة إلى هذا الشخص الآخر وحده لا يستطيع منتزع الحيازة أن يلجأ إلى دعاوى الحيازة إلا إذا انقطع الإكراه ، فعيب الإكراه لا يحتج به إلا من وقع عليه الإكراه (2)
و بالرجوع إلى نص المادة 808 فقرة 02 من القانون المدني، فإن عيب الإكراه يزول بانقطاع الإكراه ، إذ جاء فيها أن الحيازة إذا اقترنت بإكراه، فلا يكون لها أثر تجاه من وقع عليه الإكراه، إلا من الوقت الذي يزول فيه هذا العيب .
غير أن السؤال الذي يجب طرحه هو هل الحيازة التي تبدأ هادئة ثم يضطر صاحبها لاستعمال القوة و التهديد للاحتفاظ بها تعد معيبة ؟ للإجابة عن هذا السؤال انقسمت الآراء إلى وجهتين :
أ / الرأي الأول : يرى القائلون به أنه لا يكفي أن ينقطع الإكراه الذي حصل به الحائز على الحيازة ابتداءا ، حتى تكون الحيازة خالية من عيب الإكراه بل يجب أن تستمر – فوق ذلك – هذه الحيازة الهادئة طوال المدة التي تبقى فيها ، فإذا كانت مهددة يعكر صفوها اضطرار صاحبها في أي وقت للدفاع عنها بالقوة ، فإنها تكون حيازة غير هادئة مشوبة بعيب الإكراه (1) .
إذ أن المقصود بالهدوء هو تمكن الحائز من استعمال الشيء و الانتفاع به دون اللجوء إلى العنف و القوة حتى لا تتحول إلى حيازة مغتصبة (*)
ب/ الرأي الثاني : يرى أصحابه أن الحيازة إذا بدأت هادئة ، فلا يعيبها بعد ذلك أن يضطر الحائز إلى استعمال القوة للاحتفاظ بحيازته ضد من يريد انتزاعها منه إذ أن هذا يكون من قبيل الدفاع الذي يثبت لكل شخص يتمتع بمركز واقعي .
و حسب رأينا فإننا نرجح الرأي الثاني،ذلك أن العبرة ببداية الحيازة و مدى اقترانها بالإكراه أو عدمه و هو ما يستفاد من نص المادة 808 فقرة 02 من الق.م التي تنص ( إذا اقترنت الحيازة بإكراه .......) و بالتالي فإن بدأت الحيازة هادئة ثم شابها عيب الإكراه و قام الحائز بدفعه مستبقيا سيطرته الفعلية على العيب محل الحيازة كانت حيازته صحيحة .
4/ عيب الغموض أو اللبـــس : يتعلق هذا العيب بالركن المعنوي في الحيازة إذ تكون الحيازة مشوبة بعيب الغموض أو اللبس إذا اشتبه أمرها فيما يتعلق بالركن المعنوي، فيطرح التساؤول، هل أن الحائز يحوز لحساب نفسه أو أنه يحوز لحساب غيره؟أو لحساب نفسه وحساب غيره معا ؟.
و نضرب في هذا مثالا بحيازة أحد الشركاء في الشيوع ، الذي يتمسك بحيازة العين لنفسه خاصة ، فأعمال الحيازة المادية التي يقوم بها كشريك في الشيوع هي نفسها الأعمال التي يقوم بها في ملكية مفرزة ، و قد يأتيها بنية أنه يوجد غيره معه يشاركه في الملك ، فهنا يقوم اللبس في حيازة الشريك في الشيوع للعين الشائعة إذا تمسك بأنه يحوز العين لحسابه ، إذ هي تحتمل هذا المعنى كما تحتمل معنى أن الشريك يحوز لحساب نفسه ولحساب غيره من الشركاء ،فتكون الحيازة في هذه الحالة مشوبة بعيب الغموض أو اللبس و من ثم لا تنتج أثارها (1)
و عيب الغموض أو اللبس هو عيب نسبي (*) فلا يكون له أثر إلا قبل من التبس عليه أمر الحيازة من حيث الركن المعنوي و هو ما تنص عليه المادة 808 فق 02 من الق.م التي جاء فيها أنه (إذا كان في الحيازة التباس فلا يكون لها اثر تجاه من التبس عليه أمرها إلا من الوقت الذي يزول فيه هذا العيب) .
و تأسيسا على ذلك فانه و بالنسبة للمثال السابق فإن الحيازة الغامضة عند الشريك على الشيوع لا يكون لها أثر إلا قبل الشركاء الآخرين في الشيوع ، إذ لا يحتج عليهم بهذه الحيازة الغامضة و لكن يحتج بها على غيرهم، و تظل هذه الحيازة غامضة إلى أن ينتفي اللبس فيها ، و الذي لا يكون إلا بالمعارضة الساطعة و المنكرة لحقوق الآخرين فإن لم ينكر ذلك تبقى على الشيوع (1) .
و عليه نصل إلى أن الحيازة إن استوفت أركانها و شروطها أصبحت محلا للحماية القانونية ، فتكون بذلك للحائز مصلحة قانونية حيث تحمى الحيازة لذاتها بصرف النظر عن ما إذا كان الحائز مالكا للعقار من عدمه . ومن ثم فان حصل اعتداء على المركز الواقعي أو احتمل الاعتداء عليه كانت المصلحة قائمة و حالة ، و عندها للحائز المطالبة بالحماية القضائية من خلال ممارسته لوسائل الحماية القانونية المقررة قانونا كما سيأتي بيانه بأكثر تفصيل في الفصل الثاني من هذا الموضوع .
(1) - رمضان أبو السعود، المرجع السابق ،ص523 .
(2) – عمر زودة محاضرات في الحيازة ألقيت على الطلبة القضاة الدفعة 13 السنة الأكاديمية 2003/2004.
(3) فريدة محمدي ، الحيازة و التقادم المكسب، طبعة 01 ،الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 2000 ،ص 08 .